في السياسة، كما في لحظات الشدة، لا تُقاس المسؤولية بما يُقال، بل بما يُفعل، ولا تُختبر القيادة في قاعات الفنادق ولا على منصات اللقاءات الحزبية المريحة، بل في الميدان، وسط الألم، والركام، ووجوه الضحايا.

من هذا المنظور، عاد اسم عزيز أخنوش رئيس الحكومة ورئيس حزب التجمع الوطني الأحرار ليتصدر الجدل، لا بسبب قرار حكومي أو مبادرة اجتماعية، بل بسبب غيابٍ ثقيل عن مدينتين منكوبتين، وحضورٍ خفيف إلى نشاط حزبي بطنجة، في توقيت لا يحتمل أي التباس أخلاقي أو سياسي.
ففي الوقت الذي كانت فيه آسفي تلملم جراح فيضانات قاتلة، وكانت فاس تستيقظ على أنقاض بنايات ابتلعت أرواحا بريئة، اختار رئيس الحكومة أن يلوذ بالصمت الميداني، وأن يكتفي بمسافة باردة من المأساة. لا زيارة، لا وقوف رمزي، لا رسالة مباشرة للضحايا.
المثير للدهشة، بل للاستفزاز، أن هذا الغياب لم يمنع عزيز أخنوش من الاستعداد للظهور في طنجة، لا بصفته رئيسا للحكومة، بل بصفته رئيسا لحزب التجمع الوطني للأحرار، لترؤس لقاء جهوي حزبي ضخم، يُرتقب أن يحضره آلاف ممن يدعون عضوية التنظيم الحزبي، مع توفير المبيت والوجبات والتنظيم الكامل.
لا أحد يجادل في حق أي حزب في تنظيم لقاءاته، ولا في حق أي زعيم سياسي في مخاطبة قواعده، لكن الإشكال يبدأ عندما يصبح النشاط الحزبي أسبق من واجب المواساة، وعندما تُقدَّم المنصة الحزبية على أنقاض المدن، وعندما يبدو وكأن رئيس الحكومة يتعامل مع الكارثة بمنطق “اللامبالاة” لا بمنطق “المسؤولية السياسية”.
الأخطر من ذلك أن هذا السلوك يعمّق الإحساس المتنامي لدى فئات واسعة من المغاربة بأن هناك هوة متسعة بين الحكومة والواقع الاجتماعي، وأن الخطاب عن القرب، والتضامن، والدولة الاجتماعية، يتهاوى أول اختبار حقيقي.
فالدولة لا تُختزل في البلاغات، ولا تُدار فقط من المكاتب المكيفة، بل تُجسَّد في الحضور، في الزيارة، في الوقوف إلى جانب الناس عندما يفقدون كل شيء.
داخل حزب التجمع الوطني للأحرار نفسه، كما تُسرّب المعطيات، يسود قلق واضح من أن يتحول لقاء طنجة إلى لحظة إحراج سياسي، وربما إلى منصة احتجاج رمزي، تُرفع فيها صور الضحايا أو شعارات التضامن مع آسفي وفاس.
وهذا القلق ليس عبثيا، لأنه يعكس إدراكا داخليا بأن الزمن السياسي تغيّر، وأن الرأي العام لم يعد يقبل بسهولة هذا الفصل الانتقائي بين “رئيس الحكومة” و”رئيس الحزب” حين تكون الأرواح قد أُزهقت، والبيوت قد انهارت.
إن عزيز أخنوش، وهو يقترب من استحقاقات 2026، يواجه امتحانا حقيقيا، ليس في صناديق الاقتراع فقط، بل في رصيده الرمزي والأخلاقي. فإما أن يستعيد معنى القيادة السياسية في لحظات الألم، أو يواصل السير في منطق التدبير البارد الذي قد يكون صالحا للأرقام والمؤشرات، لكنه قاتل للثقة، ومُفلس سياسيا على المدى المتوسط.
إن السياسة ليست فقط ما يُنظَّم، بل ما يُؤجَّل احترامًا للألم العام. ومن لا يُجيد الإصغاء لصوت المناطق المنكوبة، قد يفاجأ يوما بأن هذا الصوت نفسه هو من سيحسم مصيره السياسي.





