بقلم: د.عبد الناصر مقدام
في مشهد يعكس انحرافًا خطيرًا عن مبادئ الحكامة الرشيدة واحترام المؤسسات الدستورية، يبرز تعامل رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، مع القانون الإطار 06-22 كأحد أبرز مظاهر الفشل في الالتزام بتوجيهات ملكية سامية تهدف إلى إصلاح قطاع الصحة، حيث إن قانون الإطار، الذي صادق عليه المجلس الوزاري برئاسة الملك محمد السادس يوم الأربعاء 13 يوليوز 2022، في إطار رؤية ملكية شاملة للنهوض بالمنظومة الصحية الوطنية، أصبح اليوم رهينة تعطيل ممنهج يُهدد بتقويض كل مكتسباته، ويطرح أسئلة جدية حول مدى التزام الحكومة بالعمل لصالح الوطن والمواطن.
رئيس الحكومة لم يكتفِ بتفريغ القانون من مضمونه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال تعيين وزير للصحة والحماية الاجتماعية لا يمتلك أي خلفية سياسية أو مهنية واضحة تؤهله لقيادة ورش بهذه الأهمية، إذ أن الوزير الحالي، الذي كان مجرد مستخدم سابق لدى زوجة عزيز أخنوش، وكاتبًا عامًا في رئاسة الحكومة، وقبلها عضوًا بديوان أخنوش في وزارة الفلاحة والصيد البحري، يُثير وجوده تساؤلات عميقة حول مدى احترام رئيس الحكومة لمعايير الكفاءة والنزاهة في اقتراح الشخصيات المرشحة للاستوزار، حيث إن اختيار شخص بهذه الخلفية الضحلة، وفي وزارة تُعد من أكثر القطاعات حيوية وتأثيرًا على حياة المواطنين، يكشف أن القرارات الحكومية أضحت تُتخذ بعقلية المحاباة والمصالح الشخصية بدلًا من الرؤية الإستراتيجية التي تخدم الصالح العام.
وما يزيد الأمر سوءًا هو الطريقة التي يتم بها التعامل مع المسؤولين الذين تم تعيينهم بظهائر ملكية في إطار القانون الإطار. رئيس الهيئة العليا للصحة، ومدير الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الطبية، ومدير الوكالة المغربية للدم ومشتقاته، وهم المسؤولون الذين كان يُفترض أن يقودوا الإصلاحات الكبرى في القطاع الصحي، وجدوا أنفسهم معطلين ومجردين من الصلاحيات، ومحتجزين في مكاتب متواضعة داخل قبو وزارة الصحة. هذا التهميش الممنهج لا يُمكن تفسيره إلا بوجود إرادة سياسية لتعطيل المؤسسات الإستراتيجية التي كان يُفترض أن تكون ركيزة للإصلاح، مما يطرح تساؤلات عن الجهات التي تُمعن في عرقلة إخراج هذه المؤسسات إلى حيز الوجود وتُفرغها من محتواها.
ولا يقف الأمر عند حدود تعطيل المؤسسات الإستراتيجية في قطاع الصحة التي عيّن الملك محمد السادس مسؤوليها بظهائر ملكية شريفة، بل يمتد إلى مشاريع إستراتيجية كان يُنتظر أن تُحدث تحولًا جوهريًا في النظام الصحي، وفي مقدمتها مشروع رقمنة القطاع الصحي المتمثل في “الملف المشترك للمريض”. هذا المشروع، الذي كان يُفترض أن يُحدث نقلة نوعية في إدارة البيانات الصحية وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، تبلغ قيمته 180 مليون درهم و499 ألف و651 درهم، تم إلغاؤه بشكل مفاجئ، وبجرّة قلم للكاتب العام لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية الذي أضحى الحاكم الفعلي للقطاع الوزاري، وذلك بدعوى “إجراء تعديلات”.
ولكن في الواقع، تُثار شبهات جدية بأن الإلغاء جاء لفتح الباب أمام إعادة تفصيل شروط الصفقة لتناسب مصالح مستثمرين محددين قد يكونون مقربين من رئيس الحكومة.
وتزداد الشكوك عندما يظهر اسم مالك مجموعة “أكديتال”، الذي يُقال إنه يسعى، بشراكة مع شركة أمريكية كبرى، للظفر بهذه الصفقة. هذا الأمر يثير مخاوف حقيقية من أن تكون هناك ممارسات غير قانونية أو غير أخلاقية تُحيط بهذا المشروع، خصوصًا في ظل التطورات التكنولوجية التي تُهدد أحيانًا بسرقة أو إساءة استخدام معلومات المرضى المغاربة. فبدلًا من تعزيز الشفافية وحماية البيانات الصحية، قد تتحول هذه المعطيات إلى أداة في يد مستثمرين يسعون لتحقيق مصالح شخصية على حساب خصوصية وأمن المواطنين، في ضرب صارخ للسيادة والأمن الصحيين للبلاد.
إن القانون الإطار 06-22 يُعتبر من أبرز الإصلاحات الملكية الكبرى التي جاءت لتأسيس منظومة صحية وطنية شاملة وعادلة، تقوم على أسس متينة من الحكامة الرشيدة والرقمنة. فمن خلال تعزيز الشفافية والمساءلة، يسعى القانون إلى بناء إدارة صحية قوية تعتمد على معايير دقيقة وفعّالة، كما تهدف الرقمنة إلى تحسين جودة الخدمات وتيسير الوصول إليها، فضلًا عن ضمان إدارة محكمة للموارد. لكن تعطيل هذه المحاور الكبرى يُفقد هذا القانون مضمونه الحقيقي، ويُهدد بتحويله إلى مجرد نص جامد يفتقد للروح الإصلاحية التي أُعدّ من أجلها.
ولم يكن مشروع رقمنة القطاع الصحي مجرد ملف إداري، بل كان خطوة أساسية نحو تحسين الشفافية وتعزيز الحوكمة في نظام يعاني من أزمات مزمنة، إذ أن إلغاء هذا المشروع الرقمي الضخم يُظهر بوضوح أن الحكومة ليست فقط غير جادة في تنفيذ الإصلاحات، بل تُمعن في عرقلة المشاريع الملكية التي تخدم المواطنين، مما يؤدي إلى هدر المزيد من الوقت والموارد، ويُفرغ التزامات الدولة تجاه شعبها من معناها.
إن ما يحدث اليوم في قطاع الصحة هو أكثر من مجرد فشل إداري؛ إنه انحراف سياسي خطير يضرب في عمق المؤسسات الدستورية. حيث إن رئيس الحكومة، الذي يُفترض أن يكون الضامن لتنفيذ التوجيهات الملكية، أصبح اليوم عائقًا أمام تحقيقها. كما أن التعيينات الملكية، التي تعكس رؤية إستراتيجية للنهوض بالقطاع الصحي، تم تفريغها من محتواها بشكل متعمد، في خطوة تُظهر استهتارًا غير مسبوق بهيبة المؤسسات. هذا الوضع يُعمق أزمة الثقة بين المواطنين والحكومة، ويُثير مخاوف حقيقية من أن تتحول الإصلاحات الملكية الكبرى إلى مجرد شعارات جوفاء بسبب غياب القيادة السياسية الواعية والمسؤولة.
إن اختيار وزير بلا كفاءة، وتعطيل تعيينات ملكية، وإلغاء مشاريع إستراتيجية تحت شبهات المحاباة والمصالح الخاصة، كلها مؤشرات واضحة على أن حكومة عزيز أخنوش تُدير القطاعات الحكومية، ولاسيما منها الاجتماعية، بعقلية المقاولات الصغيرة التي تُغلب المصالح الآنية على الاعتبارات الوطنية الكبرى، وهو ما لا يُهدد فقط بإفشال إصلاح القطاع الصحي، بل يُشكل خطرًا على مصداقية المؤسسات برمتها، مما يستدعي وقفة حاسمة من جميع الفاعلين السياسيين لوضع حد لهذا التهاون.
المغرب اليوم بحاجة إلى قيادة سياسية تُدرك حجم التحديات التي تواجه البلاد، وتعمل بإرادة صادقة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة. وإذا كان رئيس الحكومة غير قادر على تحمل مسؤولياته وتنفيذ التزاماته تجاه الملك والشعب، فإن استمراره في هذا المنصب يُعد عقبة أمام تحقيق تطلعات المغاربة في نظام صحي عادل وفعال، لاسيما وأننا على أبواب تظاهرات عالمية.
قانون الإطار 06-22 ليس مجرد ورقة قانونية، بل هو التزام ملكي أمام المغاربة لا يحتمل العبث أو المماطلة، وأي محاولة لتفريغه من مضمونه تُعد خيانة واضحة للمصالح العليا للوطن.