إدريس كسيكس: وسائل الإعلام لم تعد تخدم الصحافة… بل تقتلها!

أكد الكاتب والصحفي إدريس كسيكس أن وسائل الإعلام اليوم لم تعد تخدم الصحافة بقدر ما تعمل على إضعافها، موضحًا أن الضغوط الاقتصادية والتكنولوجية أثرت سلبًا على الروح النقدية لدى الصحفيين وقوضت قدرتهم على التحقيق. جاء ذلك خلال ندوة نظمها “منتدى الإعلام والمواطنة” في المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، حيث حذر كسيكس من أن سيطرة عمالقة التكنولوجيا على سوق الإعلانات الرقمية جعلت وسائل الإعلام المحلية رهينة لنظام اقتصادي يكرس الإثارة و”البوز” كوسيلة للبقاء.

وأشار إلى أن 80% من ميزانيات الإعلانات الرقمية تذهب إلى المنصات التكنولوجية الكبرى، مما عمّق أزمة الصحافة التقليدية وحولها إلى مجرد وسيط للمحتوى السطحي، بدل أن تكون مصدرًا موثوقًا للتحليل والاستقصاء. هذه التبعية الهيكلية دفعت وسائل الإعلام إلى الدخول في سباق محموم وراء الإثارة، واصفًا المشهد الإعلامي الحالي بـ”أدغال إنتاج المحتوى”. وأضاف أن التفاؤل الذي ساد بعد 2011 حول دور الإعلام في تعزيز المواطنة الإعلامية أثبت سذاجته أمام هيمنة المصالح الاقتصادية والسياسية.

مستندًا إلى أفكار الفيلسوف برنار ستيغلر، طرح كسيكس مفهوم “الانتروبيا السلبية للمعلومات”، مشيرًا إلى أن التسارع المستمر في تدفق الأخبار والمحتوى أدى إلى حالة من الفوضى الإعلامية، حيث يتم إنتاج كم هائل من المعلومات دون قيمة حقيقية. وشدد على أن الحل يكمن في تطوير محتوى بديل هادف، إلا أن هذا المجال يعاني من “فقر لا يمكن تصوره”، مؤكدًا أن غياب منصات البودكاست والبرامج التعليمية وورشات التكوين الحديثة يعمّق الأزمة.

اعتبر كسيكس أن الإعلام المجتمعي قد يكون الحل الوحيد لاستعادة البعد المواطن في الصحافة، لكنه ربط نجاح هذا النموذج بإصلاحات تتجاوز الجوانب القانونية، مطالبًا بإطلاق مشاريع تجريبية لإثبات جدوى هذا النوع من الإعلام. وأضاف أن السماح بإنشاء وسائل إعلام مجتمعية سيكون خطوة نحو فضاءات تعبير حقيقية، حيث يمكن للمواطنين مناقشة قضاياهم بحرية بلغتهم الخاصة.

في سياق أوسع، رسم كسيكس صورة قاتمة عن مستقبل الصحافة في ظل التحولات الرقمية، قائلاً: “لقد قتلت وسائل الإعلام الصحافة”، مشيرًا إلى أن التجريد المستمر للصحفيين من قوتهم أدى إلى انحسار الصحافة الاستقصائية، حيث بات التمويل غير متاح لتحقيقات معمقة، مما دفع المؤسسات الإعلامية إلى إنتاج محتوى نمطي يفتقر إلى العمق والتحليل. هذه الديناميكية، وفق كسيكس، أدت إلى تراجع الدور الجوهري للصحافة كمراقب للسلطة وكمنصة للنقاش العام المستنير.

على المستوى السياسي، حذر كسيكس من “الأزمة الديمقراطية” التي تعيشها الأنظمة الحديثة، مستشهدًا بتحليل ريجيس دوبريه حول إمكانية تحوّل الديمقراطيات إلى أنظمة سلطوية بغطاء ديمقراطي. وأكد أن التقاء السلطوية السياسية مع الأوليغارشية الرأسمالية أدى إلى إضعاف قدرة المواطنين على التأثير في القرارات العامة، مشددًا على أن “المواطن لم يعد يملك أي تأثير حقيقي على السياسات العامة بسبب هيمنة رأس المال والإعلام الموجه”.

في مواجهة هذا الواقع، دعا كسيكس إلى تعزيز التربية الإعلامية كمحور أساسي لاستعادة الوعي النقدي داخل المجتمع. وأوضح أن الانتقال من 300 ألف قارئ للصحف إلى 30 مليون مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي تم دون بناء ثقافة إعلامية نقدية، مما خلق فراغًا معرفيًا استغلته الجهات الاقتصادية والسياسية لصياغة الرأي العام وفق أجنداتها الخاصة. وحثّ الدولة على لعب دور أساسي في دمج التربية الإعلامية داخل منظومة التعليم منذ سن مبكرة، معتبرًا أن بناء مواطنة إعلامية ناقدة يتطلب إصلاحًا جذريًا في المناهج التعليمية والمنابر الإعلامية.

في ختام مداخلته، شدد إدريس كسيكس على ضرورة التحرر من الوصاية الفكرية وتعزيز ثقافة مواطنة نشطة تتجاوز الشعارات الوطنية السطحية. وأكد أن المواطنة ليست مجرد انتماء جغرافي، بل فعل واعٍ والتزام نقدي يتجسد في المشاركة الفعالة في النقاش العام، داعيًا إلى إصلاح جذري في الفضاءات الإعلامية والتعليمية لتمكين المجتمع من استعادة دوره في صياغة مستقبله بعيدًا عن هيمنة الإعلام التجاري والمصالح الرأسمالية.