إنسان ما بعد الحداثة.. الحياة بحد ذاتها سلعة

مجد حرب

الفضاء الرقمي
يعامل الإنسان المعاصر الفضاء الرقمي كجزءٍ مهمٍ وأساسيّ من حياته، ومن خلال هذا الفضاء الرقميّ يُلبّي حاجاته وغاياته المكنونة في النفس، وهذا الاحتياج يكوّن أهم سمة من سمات تطوّر هذا العصر، وفي نفس الوقت إن إنسان مابعد الحداثة في حالته النفسية لا يُدرك موقعه كسلعة وليسَ مستهلك، أي أن هذا (الفضاء الرقمي) ليسَ موظّفًا في تلبية حاجات المرء بقدر ما أن المرء بذاته قد صار سلعةً لا واعية في ظلّ هذا النظام.

العبد المطيع للتصنيع
بموازاة تطوير منطق التصنيع لأدوات الإنتاج وتنويع المنتجات، تطوّرت آليات تسويق تستهدف في المقام الأول اللاشعور عند الإنسان المعاصر، وكرّست كل ما يسلب الإنسان ملكة التفكير خارج إطار الفضاء الرقمي (استيلاب كيانه كاملًا على شكل أرقام) وهذا عن طريق تقنيات إيحائية، بل تنويم مغناطيسي معقّد ومتشعّب يسقط في حباله حتى “أعقل” و “أفطن” إنسان دون وعي. والنتيجة أن الإنسان يتوهّم أنه حُرّ، لكنه في العمق مسلوب الإرادة، وتُفرض عليه مستهلكات هو في الحقيقة في غنى عنها لكنه يتهيّأ أنه في حاجة ملحّة لها، ليس بالضرورة لكي يعيش، بل ليكون كالآخرين: مقاومةً منه للشعور بالدونية والإحساس الوهمي بالتفوّق. أي بناء هوية مصطنعة، قشورية، ما يهمها نظرة الغير لها وليس الرضى الذاتي على النفس على مقوّمات عقلية منفصلة عن الفضاء الرقمي. وهذا يعني طغيان التفكير الوجداني على حساب التفكير المعرفي العقلي، فيصبح الإنسان أداة طيعة في مهب ريح الاستهلاك الأعمى، العبد المطيع لسيده: “التصنيع“..[1]

الاغتراب عن الواقع غير الرقمي
إذا عدنا إلى جذور مرحلة ما بعد الحداثة، حيث قامت على أسس التهديم والتفكيك في رؤية الإنسان لذاته وما حوله من موجودات تدّعي “الحقيقة، الكمال، الصحيح” [3]، إضافة إلى نزع سحر الطبيعة وطعن الصورة النموذجية عن مناهج المعرفة كافةً، وخاصةً الدينية والميتافيزيقية منها، ومنها الرؤية الكونية للوجود بذاته وسببيّته وغايته، ورؤية ماهية وقيمة كل من الفنّ والأدب واللغة والفكر [2]،هذا ما شيّد مرحلة جديدة في فكر الإنسان الما-بعد الحداثي، وتحوّل من خلالها من (إنسان) بالمعنى ما قبل الحداثي، إلى (مغترب) عن كل ما حوله، أي عن واقعه غير الرقميّ؛ إذ أن الفرد في عصرنا الحالي يسيطر عليه الشعور بالاغتراب الداخلي عن الحقيقة والقيمة، وهذا ليس إلّا نتيجة محتّمة لما بعد الحداثة، وهذا أيضًا ما أصبح حالة نفسية جمعية كرّست في ظل تقنية عمل النظام العالمي السائد (القائم على التسليع والاستهلاك عبر الفضاء الرقمي)، والذي وصل إلى أوج استخدامِه للاغتراب الجمعي في وقتنا الحالي. فإن ما يكوّن هوية الفرد (المابعد حداثي) حاليًا هو سياسات وواجهات ومحاصرة وتوجيه نظام نشأ في ظل نتاج عصر ما بعد الحداثة.

هناك دائما حالة من الغرق والإدمان (هِيستريا جماعية) في وسط هذه التوجيه، ومن الأمثلة المباشرة غرق الأفراد في مستنقع الميديا والإعلانات والترويج التجاري وزيف القِيَم الثابتة، وتوجيهه الدائم نحو حالة متضخّمة من الاغتراب عن واقعهم وذواتِهم ليصنعوا واقعًا رقميًا يتماشى مع أهوائهم، وبالتالي شعور دائم بعدم الرضا والشروع لتعويض هذا الفراغ، إذ أن الميديا بذاتها عبارة عن وهم مُمنهج قد حوّل العالم من مجتمعات متفرقة إلى مجتمع واحد يسعى جميع من به نحو مقارنة ومنافسة بعضهم بعضًا حسبَ مسطرةٍ ممنهجةٍ يفرضها خورزميّات هذا النظام، وهي حزمة من القِيَم والمهارات المأجورة والثقافات المصطنعة.

[ويجدر الذكر أن ذلك قدّ أثّر أيضًا بشكل مباشر بوجود فلسفة الدولة، وبالتحديد استقلال سيادة فلسفة الدولة لكل مجتمع بشري، فإن هذه السيادة على وشك الانهيار أمام سيادة هذه التكنولوجية على كل الأفراد وإغراقهم بالزَيف والتسليع؛ فيصبح العالم قرية صغيرة من المستهلكين لهذا النظام، أي أدوات خام للتصنيع التجاري. (للاطلاع على مقال “فلسفة الدولة أمام التكنولوجية الكونية” من هنا)]

استهلاك اللاواعي الجمعي كسلعة
إن المجتمع هو الذي يقرّر ما هيَ الأفكار والإحساسات التي يمكن أن تمرّ في وعي الفرد، وتلك التي من الضرورة أن تبقى (غير واعية). [1] صـ 18.

والشرط هنا بأن تكون خارج دائرة الوعي بها من أجل تنفيذها كأفكار وسلوكيات طبيعية وبديهية دون الجدل بها، وهذا يعود -على مستوى الفرد- إلى طرح عالم النفس والفيلسوف (سيغموند فرويد) عن الرغبة اللاواعية التي تُعالَج من خلال إخراجها إلى دائرة الوعي. وإن هذا الاستخراج والمحاكمة اُعتمد من فرويد في جلساته العلاجية الّتي أسس عليها علم النفس (راجع كتاب الغريزة والثقافة)، يقول عالم النفس والفيلسوف (إيريك فروم):

فكما أن هناك طبعٌ مجتمعي، فإن هناك لاوعي اجتماعي. [1] صـ 28

قدّ يصحّ القول هنا أن هذا الـ (لاوعي الجمعي) هو أهم سمات الأفراد المُستهلَكِين كسلعة من النظام المذكور، أي أفراد الممثّلين لـ (أنا والنحن لإنسان ما بعد الحداثة)، وإن الهلوسة الجمعية التي ذُكرت سابقًا ما هي إلّا لاوعي اجتماعي يخدم سمات الاغتراب وملاحقة الشعور بالقيمة من خلال عوالم رقمية، إضافة لاستغلال ذلك في تسليع وتصنيع الفرد.

إذًا، يتعلّق نشوء الحالة النفسية الجمعية عند (الإنسان الما-بعد الحَداثي) مع أشكال الارتباط والتسليع والتأثير من قبل الهيكل الاقتصادي -القابع تحت حكم النظام الرأسمالي- لكل من رغباته وآماله تجاه العيش في واقعٍ يُلبّي اندِفاعاته وإيحاءاته الباطنية. فإن وصفة نجاح السوق الاقتصادية الحالية هي:

إنتاج الواقع المرغوب فيه من قبل المُستهلكين دون أي حدود. وبما يتجاوز قيمة السلعة بحدّ ذاتها، فإن المُهم كيفية التأثير على المستهلك ليستقبلَ السلعة، وليس قيمتها. وقدّ وظّفت الدراسات السيكولوجية في نظام الاقتصاد هذا للعمل على تحقيق تقنية ترويجية للسِلَع تجذب المُستهلك عن طريق إيحاءات لاواعية تُغذّي آماله في الشعور بذاته، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا تعاش هذه العوالم الافتراضية (الفضاء الرقمي) على أنها مصنوعة أو خالية، غير واقعية، أو مبنية، بل تعاش كـ (مفرُطَة في الواقعية)، وممتعة ومليئة بالمشاعر والحماس الحقيقيين؛ ومع تطوّر هذا النظام يصبح المستهلك (تابعًا) له، أي إن هذه الإيحاءات اللاواعية تصبح سمة جمعية يُتاجر بها في المجتمع مابعد الحداثي.

النتيجة النهائية لهذا التطوّر هو عالم يُصبح فيه كل نشاط معاشًا وتجربة مصنوعان يمكن امتلاكهما؛ أصبحت الحياة ذاتها سلعة [1] صـ 56.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *