بقلم: أحمد الفردوس
رغم الإمكانات المتوفرة للتلفزيون المغربي، المادية واللوجستيكية والموارد البشرية المتمرسة، فإن أغلب البرامج التلفزيونية التي تدعي الإهتمام والحرص على ترجمة أهداف التعريف بتراث فن الغناء الشعبي عامة، وفن العيطة خاصة، قد ظلت حبيسة ومتشبثة بإنتاج وتصوير فقراتها الفنية داخل “كواليس” بلاطو الاستديو، بل ظلت مثل هذه البرامج محافظة بشكل متخلف ورديء على ديكورات وإكسسوارات جامدة وميتة، وأساليب متجاوزة على مستوى الإنتاج والإعداد والتقديم والتنشيط، دون الحديث عن تغييب أهداف جد مهمة ذات الصلة بتثمين وتحصين التراث المادي وغير المادي في علاقة بمختلف التعبيرات من تراثنا الغنائي ضمن ثقافتنا الشعبية الغنية بروافدها المتنوعة والمتعددة.
طبعا هناك استثناءات لا ينكرها إلا جاحد، حيث استحضر في هذا السياق البرنامج الرائع الذي تم التشطيب عليه بجرة قلم، ودون مبرر مقنع، ـ طبعا لإفساح المجال لبرامج مستنسخة منحطة ورديئة ـ تنهل من منتوج هذا العمل الثقافي الشعبي الخالد، ويتعلق الأمر، بالبرنامج الجميل “صُنَّاعْ الْفُرْجَةْ” الذي كان يعتمد في تصويره وإعداد حلقاته على البحث والتنقيب على كنوزه الثمينة المنسية هنا وهناك، ثم حزم حقائب السفر والتنقل لمسافات طويلة، من جهة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى بل من قرية نائية لأخرى بهدف تقريب المشاهد من أمكنة وفضاءات تواجد رواد وأعلام تراث الغناء الشعبي وأعلام فن العيطة المغربية بمختلف أنماطها وإيقاعاتها وميازينها، والتعريف بنشأتهم ومسارهم والإستعانة طبعا بمعارف وثقافة المختصين والباحثين والدارسين والمهتمين بهذا الحقل التراثي المتميز.
إن استسهال هذا النوع من البرامج التراثية والثقافية والفنية التي يستعجل البعض طبخها وسط قدر “الكوكوت منيت”، والاقتصار على إعدادها وتقديمها داخل فضاءات ميتة وجامدة، وبوسائل وأساليب أكل عليها الظهر وشرب، يؤكد بأن القائمين على شأن التلفزة المغربية، ومن يحتكر مفاتيح أبواب أقفالها الصدئة، لا علاقة لهم بهذا الحقل التراثي “السهل الممتنع”، بل أنهم لا يفهمون أصلا في التعاطي مع موروثنا الثقافي الشعبي وخصوصيات ولادته وإنتاجه وسط أمكنة وفضاءات كانت ومازالت تتميز بمعمار هندسي تنبعت منه رائحة عبق الزمن الجميل.
هل تعوزنا الفضاءات ـ المآثر التاريخية ـ التي تستحق التثمين والتعريف بها من خلال استحضارها في مثل هذه البرامج التراثية والفنية، وجعلها محور تصوير حلقات برنامج “النَّجْمْ الشَّعْبِي”؟
قد يكون هذا الفضاء ساحة من ساحات فن الحلقة، أو ساحات القصبات التاريخية المهملة وما أكثرها في ربوع الوطن، أو قصرا من قصور حضارة المغاربة، أو رياضا يمتاز بجمالية هندسته ومعماره المذهل هنا وهناك، وقد يكون هذا الفضاء غابة من غاباتنا الجميلة، أو حقلا زراعيا يعكس جمال الطبيعة في أوساط باديتنا المغربية في الجبل والسهل، أو مربطا من مرابط الخيول وتجمعا للفرسان، أو أن يتم انتقاء فضاء مغري للتصوير بجانب بئر وناعورة وساقية من سواقي الزراعة وتربية قطعان المواشي، أو أن نجعل من محطاتنا الموسمية من مواسم تراث التبوريدة مكانا وفضاء للتصوير بالقرب من الزوايا ذات الصلة بالرماية وركوب الخيل.
كان من الأليق بـ “العقل” الذي فكر ودبّر شروط ولادة برنامج “النَّجْمْ الشَّعْبِي” أن يضع سيناريوها يتميز بالإنتصار لفضاءات الذاكرة والمجال بعالمنا القروي وهوامشه الحضرية، من أجل تقديم حلقات فرجوية وتثقيفية بنكهة القرب من ينابيع تراث الغناء الشعبي المغربي الزاخر بالتنوع والتعدد والخصوصيات، سواء بمجال عبدة أو دكالة وأحمر والحوز والشياظمة والشاوية وجبال الأطلس، ومنطقة سوس العالمة، وأقاليمنا الجنوبية الصحراوية، وبالجنوب الشرقي وجبال الريف الشامخة وغيرها من المجالات الجغرافية.
إن الهدف من ترافعنا على أهمية تصوير وتقديم مثل هذه البرنامج ذات النفحة الموسيقية والغنائية الشعبية بمختلف مناطق المغرب انطلاقا من ـ الينبوع إلى المصب ـ هو العمل:
ـ أولا، التخطيط والعمل من أجل المحافظة على المنتوج الغنائي الشعبي دون تشويه، والحفاظ على ذلك الخيط الناظم والرفيع مع غيره من الغناء في ربوع البلاد.
ـ ثانيا، التأكيد على تقوية اللحمة والروابط والقواسم المشتركة بين كل هذه المجالات وخصوصياتها التراثية على مستوى الأصوات الغنائية، وما يصاحبها من آلات طربية وإيقاعية أضحت منسية ومهمشة مثل آلة النفخ “الْمََكْرِونَةْ” و “الْغَيْطَةْ” ثم آلة “لَوْتَارْ” الطربية المغربية الأصيلة.
ـ ثالثا، الإشتغال بمفهوم “اليقظة الثقافية” من أجل تثمين وتحصين مختلف الأزياء والألبسة التقليدي واللهجات المستعملة، إلى جانب مختلف الآلات الطربية والإيقاعية.
ـ رابعا، العمل على تثمين ما تزخر به مجالاتنا الجغرافية من تنوع وتعدد الثقافات الشعبية المغربية وتلاقحها، في علاقة بالعادات والتقاليد والطقوس المحلية والجهوية.
ـ خامسا، أهمية استرجاع واستحضار ذاكرة القصص والحكايات الشعبية الشفهية الرائعة، التي تبصم على وحدة مواضيع عناوين المقطوعات الغنائية، من خلإال إشراك الشيوخ والرواد والرائدات في مجال الغناء الشعبي والحرص على دعوتهم والحضور بجانب الجمهور في الزمان والمكان بمختلف المناطق.
اعتقد أن عملية تصوير حلقات “النَّجْمْ الشَّعْبِي” خارج أسوار استوديو التلفزة، وفي مناطق وأماكن متنوعة ومتعددة تعدّ قيمة مضافة للبرنامج، بل أنها تعدّ مفخرة للذاكرة والمجال والإنسان، على اعتبار أن هذه العملية تشهد وتوقع على مكان وزمان ولادة نجوم الغناء والطرب الشعبي ورواده ورائداته، وتخلد أيضا لزمن البدايات في تداول أنماط غنائية شعبية معينة بآلات موسيقية وإيقاعية معلومة، كانت ستكون عملية سهلة ومتاحة مقابل الإمكانات المادية التي تلتهمها مثل هذه البرامج المستنسخة.
الغريب في مثل هذه البرامج “الحامضة” المستنسخة بكيفية مبتذلة “سِيحْتْ الزَّرْبَةْ” والتي تنبت كالفطر بين ممرات وردهات استوديوهات التلفزيون المغربي، تحتكرها عينة من “المحظوظين” الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، عينة تجدها بقدرة قادر في كل القنوات المغربية، وفي أغلب البرامج المتشابهة وما أكثرها في زمن التفاهة وتبذير المال العام دون فائدة تذكر، والأكثر غرابة واستغراب أن المتلقي والمتتبع في بيته برفقة أفراد أسرته يشعر بنفسه غريبا عن “تلفزته” وقنواتها وبرامجها التافهة التي يمولها من جيبه.