اشرف اولاد الفقيه يكتب : تدبير ازمة التعمير ورهانات التنمية (3)

اشرف اولاد الفقيه يكتب : تدبير ازمة التعمير ورهانات التنمية (3)

إقامة نظام حكامة حضرية جيدة.

إن مصطلح الحكامة (Gouvernance) الجيدة ليس سوى توسيع نوعي لمصطلح التدبير، وهو مفهوم وضعته الهيئات الدولية لضمان مصداقية أفضل للأنشطة العمومية وخاصة في سياقات الأزمة والندرة المالية.

إن الحكامة حركة في التفكير ظهرت في نهاية الثمانينات تسمح بوضع القضايا التدبيرية للتنمية والتفكير فيها ليس على مستوى المهام والنجاعة بل أيضا على مستوى التفاعلات الاجتماعية والتكاملات المتعددة، وبالتالي فنحن مدعوون إلى إبداع نمط جديد من التسيير يدعمه نمط جديد من الاستدلال والتفكير والتخطيط.

وإذا لم تكن لهذا المفهوم محتوى معياري بالضرورة، فإنه يقودنا إلى تبني عقلانية تتسم بالنقد الذاتي في تسيير الشؤون العامة.

وسواء كان الأمر على مستوى الدولة أو مدينة فإن هذه العقلانية تعني تغليف النشاط العمومي في إشكالية وفي ممارسات توصف بالإستراتيجية وتسمح بإعطاء استعمالات جديدة للتخطيط والسياسات الحضرية.

ومن جهة أخرى فإن مفهوم الحكامة حتى وإن كان يفتقد لقيمة معيارية، فإنه يحتوي على بعد أخلاقي، باعتبار أنه يدمج القيم التي تؤسس النظام السياسي الإداري والتي تراهن على حسن التدبير حتى يتم تطبيقها، وتتم مقاربة التدبير العمومي، فالمدينة لا تسعى فقط لتقوية الموارد السياسية للدولة، بل لها بعد تسييري إذ يجب تسيير المدينة وكأنها مقاولة، ولذلك على العمل الاستراتيجي على المستوى الحضري، أن يواكب الإصلاحات الترابية التي يتم التحضير لها، إذ يجب توجيه السياسات العمومية الحضرية نحو تخفيف أهداف محددة، وتكوين المنتخبين، واستعمال مؤشر الفعالية والنجاعة، علاوة استعمال أنظمة حديثة للتنظيم والتسيير، وبنيات ملائمة، مرنة ومتأقلمة، ولضمان ممارسة الوظائف المعقدة، كالتعمير، التطهير، التكوين، التشغيل، التجهيز، النقل، النظافة، الأمن، وتدبير التلوث.. الخ.

فمن المفترض في المرافق العمومية أن تكون مندمجة بما فيه الكفاية، في التكنولوجيا الحديثة، وأن تكون موزعة جغرافية على الشكل الأفضل، وتتوفر على الوسائل الملائمة والناجعة ومن ثمة فإن من الضروري إدماج « الماركتينغ » في تدبير المرافق العمومية، لتحسين العلاقة مع المرتفقين والزبناء، وللرفع من المردودية اولا ومن جودة الخدمات الإدارية ثانيا.

ومن البديهي أن اللامركزية غير كافية، إن يجب إسنادها بمجهود هام في مجال اللاتركيز وفي مجال التدبير العمومي على جميع مستويات الترابية الإدارية المحلية، ولأن المدن مدعوة لكي تكون تنافسية على الصعيد الوطني ومنفتحة على باقي بقاع العالم، فإن من المفترض أن تكون مختبرات للتجريب والتجديد والإبداع.

إن مبدأ الحكامة يفترض من جهة أخرى ضرورة إعطاء مضمون حقيقي لمفهوم المساعدة الذي يتلخص في توزيع صارم لمجالات المسؤولية بغية إقامة ثقافة فعلية للقرب.

بالاضافة الى ان المجتمع الحضري يستلزم أشكالا أخرى للتفكير ولتدبير التهيئة الحضرية، ففي كل مدينة يجب النقاش ان ينصب حول التهيئة، وأن يعترف بالإمكانات الإبداعية المحلية الكامنة للجماعات والمجموعات القادرة على إحداث التغيير. وتكفي الإشارة هنا إلى العمل الديناميكي التي تنجزه بعض جمعيات الأحياء وبعض المنظمات غير الحكومية التي تنهض بدور تنموي وابداعي لا يقدر.

إن الحكامة تشكل نظام ضبط المجتمع الإنساني ككائن حي ومعقد يتكفل بالتسيير الداخلي وبالعلاقات مع العالم الخارجي وهذا ما يؤمن في نفس الوقت الاستقرار الملائم، وبصفة عامة نلاحظ أن هناك أربعة مكونات أساسية للحكامة فرضت نفسها تدريجيا عبر القرنين الماضيين:
المقاولة، السوق، الدولة الوطنية، والديمقراطية التمثيلية، ولكل من هذه المكونات دور خاص.

إذن هي تقاطع عمل ثلاثة شركاء أساسيين وهم الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، وبالاستناد إلى مجموعة من المبادئ :

المشاركة، الاستدامة، الشفافية، المسؤولية، الإنصاف والفعالية، وبالتالي فمدننا مدعوة لممارسة مهام تزداد تعقيدا، وذلك في سياق وطني يتميز بنمو حضري سريع يطرح تحديا أمام الجماعات لتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين، وخصوصا على مستوى التدبير الحضري عن طريق بلورة سياسة القرب وزرع قدوة الصالح العام والتمدين والمشروع الشامل في المجتمع المدني.

لأن المدينة اليوم لم تعد تعتبر كمجرد مقاطعة ترابية خاضعة للسلطة المركزية، بل أصبحت تشبه أكثر تلك الوحدات الاقتصادية الكبرى التي تتطلب تكييف نظام تدبيرها باستمرار حتى تكون ناجعة على المستوى المنتوجات والخدمات والسمعة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن أخذ المجتمع المدني بعين الاعتبار داخل المدينة أصبح أمرا ضروريا، في وقت أصبحت فيه وضعية جيوسياسية جديدة تتشكل، تدمج المحلي كفاعل عالمي جديد، في سياق انبثقت فيه قواعد جديدة للتعاون والشراكة وتشكيل الشبكات.

ولقد أصبح من المطروح، أكثر فأكثر، كون أن الأنماط الجديدة للحكامة، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، تتميز بتنمية الشركاء وإعطاء القيمة لدور المواطنين، وإقامة ميكانيزمات للتفاوض والمشاركة، وفي هذا السياق أصبح مفهوم الحكامة يبدو أكثر ملائمة ليشمل هذه المتطلبات الجدية في مجال تدبير التنمية، وهذه ليست مطروحة للنقاش لكونها مجرد مفهوم فضفاض، بل لأن تنفيذ المشاريع الحضرية، وتدبيرها واستغلال وصيانة التجهيزات الناجمة عنها في بنيات السكن والنقل، والتزويد بالماء، ومعالجة النفايات، والوقاية الصحية، والأمن…الخ، تطرح مسألة التحمل الجماعي للمسؤولية.

إن ما تمت الإشارة إليه، يملي أهداف التهيئة الحضرية، وتتعلق هذه الأهداف بضمان جودة أفضل لحياة المواطنين، ولذلك يجب على العمل الإداري الحضري، أن ينزع دائما نحو تهيئ البنية التحتية السوسيواقتصادية وضمان سير عادي للمرافق، وتنمية السياسات الأسرية، والمدرسية والجامعية، والاجتماعية، والثقافية، والإعلامية، التي تشكل الميدان الملائم للاندماج، الأمر الذي يفترض وضع استراتيجية التخطيط.
يتبع ..

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *