الإنعاش في المصحات الخاصة بالمغرب بين الاستثمار المالي واستنزاف الجيوب.. من يُنعش من؟

بقلم: منير لكماني 29.10.25 ألمانيا

من يسيطر فعلاً على الإنعاش في المغرب؟

منذ سنة 2015، ومع صدور القانون 131-13 الذي فتح رأسمال العيادات الخاصة أمام المستثمرين الماليين، تغيّر وجه الطب الخاص في المغرب جذرياً. فبعد أن كان عدد المصحات الخاصة قبل التسعينات لا يتجاوز 100، أصبح اليوم أكثر من 400 مصحة تمثل أزيد من ثلث الطاقة الاستشفائية الوطنية (حوالي 15.000 سرير). معظمها متركز في الدار البيضاء، الرباط، مراكش وطنجة.

التوسع لم يكن فقط في الجراحة أو الولادة، بل خصوصاً في وحدات الإنعاش الطبي والجراحي، باعتبارها الأقسام الأكثر ربحية. دخول مجموعات استثمارية منظمة وممولة عبر البورصة غيّر قواعد اللعبة، إذ أصبحت وحدات الإنعاش تُدار بعقلية توسعية هدفها مضاعفة رقم المعاملات. إحدى هذه المجموعات أعلنت عن هدف بلوغ 2.2 مليار درهم سنة 2023 بعد نمو يفوق 500% في أربع سنوات، مع توسع إلى أكثر من عشرين مؤسسة ما بين 2017 و2024.

بهذا أصبح الإنعاش خط إنتاج مالي وليس فقط خدمة طبية. لكن هذا النمو غير عادل جغرافياً، إذ تشير معطيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) إلى أن 80% من المصحات الخاصة متركزة على محور البيضاء،الرباط، فيما أربع جهات مغربية لا تتوفر على أي مصحة خاصة. النتيجة: المريض القروي مضطر للسفر أو القبول بخدمة عمومية محدودة التجهيز، مما يخلق “طب إنعاش بطبقتين”: إنعاش خاص متطور وغالي، وإنعاش عمومي ضعيف في باقي المناطق.

كلفة سرير الإنعاش الخاص منطق الفوترة وعبء الجيوب

التسعيرة الرسمية اليومية لوحدة الإنعاش تتراوح بين 1.000 و1.500 درهم، وفق وثائق الوكالة الوطنية للتأمين الصحي (ANAM)، وتشمل السرير والخدمات الأساسية. لكن هذه الأرقام تبقى نظرية ولا تُعكس في الفواتير الواقعية.

خلال جائحة كوفيد-19، ظهرت شكايات كثيرة من أسر مغربية تحدثت عن ابتزاز مالي عند إدخال أقاربهم إلى الإنعاش الخاص. بعض المصحات طالبت بـ عربون أو شيك ضمان يصل إلى 40.000 درهم فقط للقبول، ثم احتسبت الليلة الواحدة بـ 5.000 إلى 8.000 درهم، أي عشرة أضعاف التسعيرة الرسمية. فواتير نهائية وصلت إلى 200.000 درهم في حالات انتهت بالوفاة.

تحليلات اقتصادية مغربية قدّرت الكلفة اليومية الفعلية كما يلي:
• الأدوية: 1.700 درهم يومياً (وقد تتضاعف في الحالات الخطيرة).
• المستلزمات والتمريض: بين 1.300 و2.400 درهم.
• الإقامة والعناية المكثفة: حوالي 1.500 درهم.

الكلفة الإجمالية اليومية تتراوح إذن بين 5.000 و8.000 درهم. إقامة من ستة أيام قد تعني فاتورة في حدود 48.000 درهم قبل إضافة هامش الربح.

مجلس المنافسة المغربي نبّه سنة 2022 إلى ممارسات غير قانونية في بعض المصحات، منها:
1. فرض شيكات ضمان أو دفعات كبيرة مسبقة.
2. علاقات عمولة تصل إلى 20% مع وسطاء لجلب المرضى.
3. الإبقاء على المرضى في الإنعاش دون مبرر طبي فقط لضمان امتلاء الأسرّة المربحة.

كل ذلك جعل الإنعاش بقرة حلوب مالياً، حيث الأسرة في حالة ضعف والمريض لا يملك خياراً آخر. وفي غياب رقابة فعالة، تحولت غرف الإنعاش إلى آلة فوترة تستنزف جيوب المواطنين، حتى المؤمنين منهم، بسبب غياب تسقيف موحد للتعريفات الطبية.

الوفيات في غرف الإنعاش، ماذا نعرف وماذا لا نعرف؟

المعضلة الكبرى أن المغرب يفتقر إلى قاعدة بيانات علنية وشفافة حول معدلات الوفيات داخل الإنعاش الخاص. المصحات تعتبر هذه الأرقام “معطيات تجارية حساسة”، والسلطات لا تُلزمها بنشر مؤشرات السلامة والجودة مثل معدل الوفيات المعدَّل على خطورة الحالة أو معدل العدوى.

في المقابل، الدراسات الجامعية العمومية تقدّم لمحة تقريبية:
• دراسة مغربية سجّلت معدل وفيات يقارب 25.8% في الإنعاش الطبي.
• دراسة أخرى حول المسنين أظهرت وفيات في حدود 40%.
• أطباء الإنعاش أكدوا أن نقص الأسرة والاكتظاظ يرفع الوفيات.
• أثناء جائحة كوفيد، بلغ عدد المرضى في الإنعاش أكثر من 700 مريض يومياً وطنياً، في وقت لم يتجاوز فيه عدد الأسرة العمومية بضع مئات.

هذا يعني أن المغرب يقع في نطاق وفيات مرتفعة (25% إلى 40%)، وهي نسب عالمياً تُعد عالية الخطورة. لكن غياب معطيات القطاع الخاص يمنع أي مقارنة حول جودة العلاج.
وما يزيد الشكوك، أن مجلس المنافسة كشف عن إبقاء مرضى في الإنعاش رغم استقرار حالتهم، مما قد يرفع خطر العدوى ويمنع وصول حالات أخطر إلى سرير متاح.

القراءة القانونية والحقوقية

القانون المغربي ينص على وجود تعريفة وطنية مرجعية (TNR)، وآليات مراقبة من وزارة الصحة ومجلس المنافسة وهيئة الأطباء. لكن التطبيق محدود. لا توجد عقوبات واضحة ضد فرض الشيكات المسبقة، ولا إلزام بنشر مؤشرات الجودة والوفيات، كما لا يوجد تسقيف فعلي للأسعار.

بالتالي تظل غرف الإنعاش الخاصة مجالاً رمادياً: تجهيزات متقدمة، لكن في غياب شفافية وقيود قانونية صارمة.

ماذا تقول لنا كل هذه الأدلة؟
1. الإنعاش الخاص هو قلب الربحية في القطاع الصحي، تُدار وحداته بمنطق استثماري بحت.
2. الفواتير انفجرت: ما بين 5.000 و8.000 درهم لليلة، وشيكات دخول تصل إلى 40.000 درهم، وفواتير نهائية تناهز 200.000 درهم.
3. غياب الشفافية: لا بيانات حول نسب الوفيات أو جودة النتائج لتبرير الأسعار المرتفعة.
4. ممارسات تجارية عدوانية تشمل العمولات، واستبقاء المرضى في الإنعاش، وابتزاز الأسر.
5. نتيجة ذلك: “طب إنعاش بطبقتين” — من يملك المال يحصل على رعاية متقدمة، ومن لا يملك ينتظر أو يُحرم من سرير.

المعطيات المتوفرة تؤكد أن غرف الإنعاش الخاصة في المغرب تحولت إلى مركز استنزاف مالي. الليلة قد تكلف أضعاف السعر الرسمي، والقبول قد يُشترط بعربون أو شيك ضمان، في حين تغيب مؤشرات الجودة التي تبرر هذه الكلفة.

أما الوفيات فهي مرتفعة إجمالاً (25% إلى 40%)، لكنها تبقى بلا شفافية مقارنة بين القطاعين العام والخاص. الأخطر أن بعض السلوكيات التجارية قد ترفع الوفيات بشكل غير مباشر عبر حرمان مرضى آخرين من أسرّة الإنعاش.

إن غياب الحوكمة والشفافية يجعل من الإنعاش الخاص قضية عدالة اجتماعية وحق إنساني، أكثر من كونها مجرد مسألة طبية.
فالحق في البقاء على قيد الحياة لا يجب أن يكون رهينة شيك على بياض.