التعاضدية العامة.. الجرح المفتوح

ان ملف التعاضدية العامة لموظفي الادارات العمومية يعتبر جرحا مفتوحا لن تكفي المراهم العادية من اجل غلقه وايقاف النزيف الذي كان سببا في فضح المستور في قطاع التغطية الصحية للقطاع العام ككل سواء الاجبارية او التكميلية ولكي نوضح الامور فان هذا الجرح النازف لن يشفى طالما انتج المعنيون بالامر سياسة الهروب الى الامام وتجاهل الرسائل التي وجهت لهم والتي تحتاج الى رد عقلاني ومسؤول ليتسنى ترتيب ما سيأتي.

ان محاولة حصر الفساد في منتخبي التعاضدية العامة وحدهم دون غيرهم انما هو محاولة بئيسة و غير واقعية لتهريب النقاش الذي يجب ان يطرح اليوم اكثر من اي وقت مضى والمتعلق بمستقبل التغطية الصحية للقطاع العام سواء منها الاجبارية او التكميلية ،ذلك ان هذا النموذج الحالي قد بلغ من العمر عتيا واصبح ينتظر اعلان وفاته بعيدا عن اي مراسيم للعزاء او الدفن.

ان اصعب منظر يعبر عن واقع حال التغطية الصحية للقطاع العام هي الحال المؤلم و المخجل الذي اصبحت عليه العيادة الطبية بشارع الجزائر بالرباط والتي وضعها يدمي القلب كيف تحولت من عيادة طبية مليئة بالتاريخ وبقيم التضامن وهي رمز لمرحلة مهمة من تاريخ البلد تحولت الى مكاتب في عملية اذلال متعمدة ومعبرة ومقصودة من الكفاءة منقطعة النظير بان عهد التضامن وفلسفة التضامن والتعاضد التي سادت طيلة قرن من تاريخ المغرب قد انتهت لصالح المقاربة البيروقراطية حيث الاسبقية للورق والمساطر البيروقراطية على صحة المريض ، انها اكثر تعبير عن انجازات الكفاءة العظيمة والمتميزة التي لم نجد مثيلا لها في المملكة المغربية ما اضطر الحكومة الى التمديد ثم التمديد فالتمديد لهذه الكفاءة.

ولكن تهريب النقاش نحو التعاضدية العامة واظهارها بمظهر المؤسسة الفاسدة الوحيدة بمنتخبيها وادارييها لا يجب ان ينطلي علينا كموظفين بالقطاع العام بقينا لوقت كثير نتفرج على امثال الكفاءة منقطعة النظير وهم يجهزون على كل مكتسباتنا الاجتماعية ويجردوننا من كل شيء رويدا رويدا لصالح لوبيات لاتخدم الا مصالحها ، صحيح اننا لا نبرأ منتخبي التعاضدية العامة من تهم الفساد وفي الحد الادنى من صفة عدم الكفاءة وعدم المسؤولية ما أدى الى وصول المؤسسة الى ما هي عليه وما زاد من الطين بلة هو الدور التخريبي للفساد الاداري المعشعش في كل اركان المؤسسة طيلة عشرين سنة الماضية لكن هذه الحال هي فقط نتاج لدعاية اعلامية هدفها ان تغطي عن المآسي التي تعرفها التعاضديات الاخرى والتي انتظرنا انتفاضة من مسيريها على الاقل كاشارة الى ما بقي فيهم من حياة ليثبت انهم انتهوا منذ زمن ولم يعد لهم وجود مستقل وحر واصبحوا مسلوبي الارادة.

ان ما يثبت هذا الامر هو توقف المجلس الاداري لهذا الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي منذ منتصف سنة 2016 ، ولم يقم اي من القيادات النقابية المسيطرة على التعاضديات المكونة لهذا الصندوق باصدار اي نفس وكان المتحكم فيهم نزع عنهم البطاريات التي تعطيهم الحق في الحركة والكلام الى حين.

فمن الذي ورط رئيس الحكومة في اصدار تفويض بالصرف واعتماد ميزانيات استثمار ضخمة لهذا الصندوق منذ 2016 الى الان في تغييب لمجلس ادارة هذا الصندوق ؟ اي مبرر ساذج ومبتدل تم تقديمه لتبرير تعطيل جهاز منتخب يضم ممثلين منتخبين من طرف موظفي القطاع العام كله ؟ لماذا لم يتحرك مناصروا الديموقراطية للدفاع عن هذه المؤسسة التي عطلت عمدا بمبررات واهية وغير مقنعة لثلاث سنوات ؟ لماذا انتصرنا للبيروقراطية في ابشع صورها ؟

لماذا اكتفى روساء التعاضديات بتوقيع شيك على بياض للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي وسمحوا بالتصديق على نفقات تمت في غيابهم ؟ ودون اشراكهم ولو صوريا؟ لماذا اكتفوا بالاستمتاع باهانتهم المتكررة عبر تمديدات استثنائية لتركيبة مجلس اداري محددة في الزمن بحيث يتم جرهم كلما ظهرت الحاجة اليهم لرفع الايدي بالتصويت الشكلي على القرارات المتخدة في غيابهم؟ اليس هذا الامر حزينا ومخجلا بل ومهينا لتاريخ مسؤولين نقابيين من هذا الحجم ؟

اليس معيبا ان يتم تغييب المجلس الاداري طيلة ثلاث سنوات وان يستدعى بشكل غير ديموقراطي للمصادقة على تفويت تدبير اموال التغطية الصحية للقطاع الخاص لولا اعتراض التعاضدية العامة ؟ الم يكن مخجلا بما يكفي ان يتم استدعاء هذا المجلس مرة اخرى للمصادقة على قرارات وحسابات ختامية وميزانيات تم اعدادها والصرف منها في غياب للمجلس الاداري ؟ اليس النقاش الان هو كيفية تمرير قرار دفن الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي والسطو على تركته المادية واللامادية ؟

ان ملف التعاضدية العامة لموظفي الادارات العمومية ماهو الا القشة التي قسمت ظهر الجمل ونزعت ورقة التوت عن معاناة قطاع هام وحيوي يجب ان يعاد فيه النظر بشكل كامل وجدري وليس عبر ترقيعات بيروقراطية من يقف ورائها لا يملك اي تصور استراتيجي فتراه تارة ياتي وفق عملية نسخ غبية باستنساخ القانون الفرنسي بعد تجريده من كل الايجابيات الواردة فيه وتركه فارغا الا من العقوبات والزجر او كما سماه احد الباحثين « بالقانون الجنائي للتعاضديات » عوض مدونة التعاضد.

وتارة اخرى ياتي بمشروع قديم جدا ينفض عنه الغبار ودائما بطريقة افرغته من محتواه وهو صيغة مشوهة عن  » الصندوق المغربي للحماية الاجتماعية CMPS  » حيث تم القيام بعملية نسخ اكثر غباءا لاخراج مؤسسة عمومية  » الصندوق المغربي للتغطية الصحية CMAM  » في عملية غير موفقة حملت في طياتها كل عناصر فشل هذه المؤسسة حتى قبل ان تولد.

لقد اصبح من المستعجل اليوم إيقاف هذه الجرائم بحق موظفي القطاع العام في مجال التغطية الصحية وفتح نقاش وطني جاد يبدأ من الاعتراف الصريح بالمأزق الذي يعرفه القطاع ككل وبحصر المآسي التي اقترفت بحق التغطية الصحية للقطاع العام ومحو الارث البيروقراطي الذي زرعته الكفاءة منقطعة النظير والعودة الى الاصل اي لروح التضامن والتعاضد التي هي الحل الصحيح والبوصلة التي يجب ان تقود اي جهد للاصلاح والا فسنظل دائما مرتهنين لدوامة دائرية من الفساد ومن يدعون محاربة الفساد والتناوب بين التيارات الفاسدة نفسها على تدبير التعاضديات ومنها التعاضدية العامة وسنضيع آخر فرصة للاصلاح ما قد يترتب عنه ما لا تحمد عقباه.
قادمون…

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *