عزيز رباح
رغم انشغالي بتلقي العزاء في وفاة والدي رحمه الله ورحم جميع المسلمين، لم أستطع أن أتمالك نفسي أمام ما يُحاك لوطننا الحبيب من مؤامرات وفتن، فقررت أن أقتطع شيئًا من وقتي وتفكيري للحديث عن الخطر الداهم.
فالوطن هو أعزّ ما نملك.
أعزّ من النفس، وأغلى من الأهل، والذرية، والمناصب. فهو الوعاء الجامع للكرامة، والملجأ الذي لا يُعوّض.
لم أقبل، كما لم يقبل كل المخلصين، أن تُدنس قيمُ الوطن، أو تُمس ثوابته، أو يُفرَّغ مجتمعه من معانيه، تحت شعارات براقة، وأنشطة مريبة، وتخطيطات تُغلّف بلبوس الحداثة، بينما هي تضرب في العمق تماسك الأسرة، وذوق الناس، وبنية المجتمع.
ما يحز في النفس هو أن هذا المسار لا يتحرك وحده، بل يُدعم بخيوط خفية، وأصوات من خلف الستار، تُجمّل القبيح، وتروّج للانحدار، وتُهيّئ الفضاء العام والدعم والإشهار والإعلام لتمرير ما لا يليق بوطننا العظيم.
ولا ينبغي السكوت أبدا.
لقد كنت – وما زلت – ممن يؤمنون بأهمية الفن، ويقرّون بحاجتنا إلى الترفيه والإبداع في كل تجلياته: الشعبي، العصري، الغربي، والراب.
لكن الفن ليس بلا ملامح ولا ضوابط، بل له روح وله هوية.. وله دور في صون الذوق لا في إفساده، له دور في بناء الجمال لا ترويجه كقناعٍ لما يُهدم تحته.
فإلى أين نُقاد؟
من الذي يعكّر صفو المجتمع؟
ومن يُصرّ على طمس الذوق، وجعل الابتذال وجهًا للحداثة؟
ومن يريد أن يوصل رسالة خفية للمغاربة تقول: “اشربوا البحر، فلدينا الرعاية، وسنفعل ما نشاء”؟
هؤلاء يختارون من يضعونهم على المنصات، ويغدقون عليهم من أموال بلا حساب و بلا رقابة!! بعضهم لا تُقبل هيئته في قاعة محترمة، ولا يُستساغ كلامه في مجلس موزون، بينما يُقدَّم للشباب كقدوة ونموذج!!
استُغلت الحرية والانفتاح والتنوع، لتُدفع بعض التعابير إلى حافة الجُرأة الفجة، والرداءة المطلقة، حتى باتت بعض الفضاءات والمنابر تروّج لما يُشبه عبادة الشيطان!!
وفي الوقت الذي تُبذل فيه الجهود لتحصين الشباب من المخدرات والانحراف، نرى من يفتح له الأبواب نحو النقيض: تمجيد التيه، وتطبيع الانفلات..
حين تشتغل المؤسسات لتسديد التبليغ، ونشر القيم، وتقويم السلوك، وترسيخ الالتزام، يخرج من يُشهر الرمز المعاكس: تعميم التفاهة، وإشاعة الرذيلة، والتماهي مع أهواءٍ عابثة تتخفى وراء أسماء فنية.
نعم، الدولة تكرّم الفن، لكنها تُكرم ما يليق، ما يبني، ما يُشرف.. أما ما يُقدَّم من عروض تتجاوز كل الأعراف، وتستغل ذلك لتسويق النقيض، فذاك ما يستوجب المراجعة والمساءلة.
فكون الملايين يتابعون التافه، أو يُقبلون على محتوى منحط، ليس دليل انفتاح، بل ربما دليل على فراغ، أو استدراج، أو تهميش للبدائل الراقية.
فكون الحاجة إلى التمويل والإشهار لا يبرر البحث عن جدب المشاهدين على حساب الهوية والضوابط والأخلاق. “تموت الحرة ولا تأكل بثذييها!!!.
وأقولها بوضوح:
أخشى أن يكون هناك تيار انقلابي متطرف ،في فكره وقيمه، قد تسرّب إلى مفاصل الفن والإعلام والتعليم والمؤسسات، متخذًا منها بوابة لهدم المجتمع من الداخل بغية هدم الدولة نفسها.
فحين يعجز عن تخريب أركان الدولة، يتوجه إلى ما يدعمها: إلى الأسرة، إلى الدين، إلى الأخلاق، وإلى الحس الجمعي الذي يشدّ الناس إلى وطنهم وإلى بيعتهم.
وقد علّمنا التاريخ أن هذه البلاد، في أعتى اللحظات، جمعت بين العراقة والانفتاح، بين الأصالة والابتكار، وبين الثبات والمرونة. ولم تقبل يومًا أن يكون القبح والابتذال عنوانًا، ولا أن يُقدَّم الانحدار باسم الفن.
فكل شيء، حتى الدين والعبادات والمباح من الأقوال والأفعال له ضوابط. فكيف بالترفيه؟ وكيف بالفن؟ إذا رُفعت الضوابط، اختل الميزان، وعمّ التيه، وسهل الانزلاق، وتفشى العبث، وقل الحياء، وتم الاختراق، وفتحت أبواب الجريمة والانحراف.
لا بد من التوفيه لكن وجب المزيد من اليقظة والحزم والتحصين والتوعية. فالخير أمام.