علي الغنبوري
من المؤكد ان القضية الفلسطينة ، تحتل مكانة بارزة في وجدان عدد من الشعوب ،التي تتعاطف مع الشعب الفلسطيني لما تعرض له من نكبات و نكسات مريرة ،تسببت في تهجير و تشريد، و مقتل عدد كبير من ابناءه .
هذا التعاطف و التضامن ،شكل حلقة متواصلة في حياة شعوب عديدة ، اظهرته و اعلنته في عدد من المحطات المصيرية التي اجتازتها القضية الفلسطينة ،حيث كان الشارع مكانا بارزا و مشتعلا ، يظهر مدى التعلق و الاتصال بهذه القضية .
كما شكلت هذه القضية عنوانا لعدد من التوترات العسكرية و الحربية التي دخلتها عدد من الانظمة العربية مع الدولة الاسرائيلية ، في محاولة لاستئصالها و تحرير الاراضي العربية من قبضة اليهود “الغاشمين”.
بروز القضية الفلسطينية كاحدى التحديات الشائكة في المنطقة ، لم يكن فقط مرهونا باصطفافات مبدئية و مجردة ، تهدف لنصرة الشعب الفلسطيني و رفض الاحتلال الاسرائيلي ، بل اصبحت هذه القضية مدخلا سياسيا لعدد من القوى و الايدولوجيات الناشئة داخل المنطقة العربية للاستفراد و الهيمنة السياسية ، و السيطرة على مقاليد الحكم .
و شكلت هذه القضية ارضية صلبة ، لتمكن التوجهات القومية في عدد من الاقطار العربية من الوصول الى الحكم ،حيث جعلت من القضية الفلسطينية ، عاملا رئيسا و مركزيا ، لخلق الاجماع الشعبي داخل بلدانها ، و تابع الكل كيف اغرقت هذه الايدولوجيات المنطقة ، في كثير من التطلعات الحالمة، و كيف دفعت باستغلالها لهذه القضية ، الى ادخال المنطقة في دوامة من الاحباط و اليأس .
صحيح ان القضية الفلسطينة ، كانت عاملا اساسيا لتوحد و اجتماع عدد من الشعوب العربية ، لكنها شكلت كذلك غطاءا حقيقيا ، لسيادة الدكتاتورية و القمع و التخلف في هذه البلدان ،فاسم الدفاع عن القضية الفلسطينية حكمت الانظمة الشمولية داخل الدول العربية ،و استمدت شرعيتها من الشعارات السياسية المؤيدة لهذه القضية .
تطور الصراع العربي الاسرائيلي و طول مدته ، لم ينتج عنه الا مزيد من هضم الحقوق الفلسطينية ، و ظهور قوى بديلة عن القوميين ،جعلت هي الاخرى من القضية الفلسطينة ، عنصر جذب وشرعية ، لوجودها و لسعيها نحو الحكم .
هذه القوى الجديدة التي سعت الى تعويض الفراغ و التشرذم الذي خلفته الايدولوجيا القومية ، لم تحد عن ما كانت تقوم به هذه الاخيرة ، حيث شكل الصراع المسلح و الاحتجاج الشعبي الياتها التي تقوم عليها ،باستثناء تغير بسيط في الخلفية السياسية ،حيث استبدلت المنطلقات القومية باخرى تقوم على الدين ،و اصبحت جماعات الاسلام السياسي على امتداد المنطقة ” العربية ” ، الفاعل الجديد فيما يخص الدفاع عن القضية الفلسطينة .
هذا الفاعل الجديد في القضية ، لم تكن نتائجه اقل سوء من سابقيه ، فهو كذلك فشل في حسم اي صراع عسكري مع الكيان الاسرائيلي ، و لم يحقق اي تقدم في القضية ، بل بالعكس ازداد الامر سوء ، و استفحل الاستيطان في الاراضي الفلسطينية ، و اصحبت القضية تبتعد شيئا فشيئا عن قائمة الاولويات لدى شعوب المنطقة .
خطورة ما وصلت اليه القضية الفلسطينة، هو تحولها الى مدخل لمشاريع استعمارية جديدة للمنطقة العربية ،من طرف بعض القوى الاقليمية ، التي بدأت ترى في هذه الدول كعكة كبيرة يتوجب اقتسامها و الاستفادة من امكانياتها و مقدراتها .
و هنا يبرز مشروعان اقليميان كبيران ، يتسابقان بشكل مخيف و مقلق على الاستيلاء على الدول العربية و جعلها تابعة لها ، فالمشروع التركي و المشروع الايراني في المنطقة و انا كانا ينطلقان من خلفية دينية بحثة ، فانهما يجعلان من القضية الفلسطينية ، عنصر جذب و ارتكاز لخلق الهيمنة داخل المنطقة “العربية” ،من خلال تقديم نفسيهما كقوى قادرة على الدفاع عن القضية الفلسطينية و على حقوق الفلسطنين ،و مواجهة الدولة الاسرائيلية ،و هو ما يبرز بشكل جلي من خلال خارطة الولاءات الجديدة التي باتت تتحكم في عدد من العواصم العربية اتجاه الدولتين التركية و الايرانية .
للاسف النقاش حول القضية الفلسطينية، تحفه كثير من العواطف و المقاربات الحماسية ، و تغيب عنه كثير من الموضوعية ، وتعطل معه كل ادوات التحليل الواقعي و التقييم الجاد لمسارها و انعكاساتها المؤلمة على الشعب الفلسطيني ، الذي يبقى المتضرر الابرز من هذه القضية .
ما تحتاجه القضية الفلسطينية ، اليوم هو رغبة جماعية في كسر جليد الصمت الذي يطوق كثير من المياه المجمدة تحت جسرها ، و عزلها عن سياقات المشاريع الطامحة لاستغلالها ، و التوجه الشجاع و الموضوعي نحو البحث عن حل عادل و دائم يضمن للشعب الفلسطيني اقامة دولته الجامعة لكل ابنائه .