عبد السلام المساوي
مدينة وجدة التي سأستقربها ، بحكم الشروط المهنية أولا وبحكم الزواج والأبناء ثانيا….ويستمر هذا الاستقرار بحكم الارتباط الوجداني بهذه المدينة التاريخية والساحرة…..وهذا سر من بين أسرار كثيرة أخرى لهذه الحاضرة الممتدة في الزمان والمتجذرة في التاريخ ، قد تأتيها مكرها ، قد يفرض عليك التعيين المهني اقتحامها والسكن في أحضانها…وتمر الأيام ، وتمضي السنوات ..فترتبط بها وترتبط بك ، تطمئن إليها وتطمئن إليك …تجذبك بسحرها…تسكنك بجمالها…تنسيك جميع المدن والحواضر…أشهد انني يوم طلب مني تعبئة بطاقة اختيار المدن التي أريد الاشتغال بها ، لم أختر مدينة وجدة ونيابة وجدة ، بل اخترت مدنا أخرى ، مدن المغرب النافع، الرباط ، فاس ،مكناس…لكن أصحاب القراركان لهم رأي اخر ، وكان التعيين بنيابة وجدة في ثانوية وادي الذهب…من هنا كانت البداية ..وكان الاعلان عن ميلاد أستاذ جديد لمادة الفلسفة.
لا أنكر أنني عشت في الأيام الأولى ، في الشهورالأولى…بعض مظاهر القلق والإحباط ، دخلت عالم وجدة مرغما…دخلته في اتجاه معاكس لرغبتي واختياري..واليوم أعترف أن الاختيار قد يكون حلوا إنما التعيين أحلى ، وكذلك كان بالنسبة إلي، قدمت الى وجدة وأنا حزين ،وتبين مع مرور الايام وتوالي الأعوام أنه حزن مؤقت ،غير مشروع ، حزن مصدره التمثلات والتصورات الخاطئة ، مصدره الانطباعات الوهمية والأحكام المسبقة…حزن ينم عن جهل بتاريخية وجدة وثقافتها العريقة والغنية…ترتاح في هذه المدينة الامنة، تحبها وتحبك..تعشقها ، يرقد فيك هذا العشق ،قد يختفي في أحايين كثيرة ،ينسحب من ساحة الشعور ويغوص في اعماق اللاشعور…ولكن هذا العشق سرعان مايستيقظ بقوة ،ينتفض على اللاوعي ، يدمر الإخفاء والإختفاء..يستيقظ إذا عزمت الرحيل من وجدة ، او بمجرد التفكير في الرحيل…فالسلام علي يوم جئت الى وجدة ، ويوم تزوجت ابنة وجدة ، ويوم انجبت ولدين وبنتين..يعترفون ويعتزون بانتمائهم الى عاصمة شرق المغرب…يعشقون مدينتهم ولهم فيها مايعشقون.
وأنا صغير ، وأنا تلميذ باعدادية الكندي ، وأنا تلميذ بثانوية عبد الكريم الخطابي…بمدينة الناظور طبعا ،المدينة التي رضعت حبها في حليب أمي ، غنيت حبها باللغة الأمازيغية في مختلف انتجاتها وتجلياتها…في مرحلة الطفولة ، اذن ، وفي مرحلة المراهقة بشغبها واحلامها، اكتشفت مدينة مغربية وكنت اجهل مدى قربها أو بعدها عن مدينتي..لقد كنا نحيا في عالم منغلق ، ابواب هذا العالم موصدة بفعل شروط ذاتية وموضوعية…تعرفت على مدينة وجدة عبر امواج الاذاعة ، اذاعة وجدة الجهوية….
وأنا طفل ، وأنا تلميذ ، كنت اتمنى دائما أن اصبح استاذا…عشقت هده المهنة واغرمت بالأستاذية….وكثيرا ما تقمصت شخصية المعلم والاستاذ ، وكنت اتقمص دور المدرس مع ابناء وبنات الأقارب والجيران….
يونيو 1980 نلت شهادة الاجازة في الفلسفة تخصص علم الاجتماع بميزة حسن ، وكنت الأول في دفعتي …مرتبة أهلتني لأحظى بمنحة متابعة الدراسة بفرنسا…استقبلني عميد كلية الاداب بمكتبه رفقة زميلي الطالب برهومي الوافد من بني ملال والذي احتل المرتبة الثانية…استقبلنا مهنئا ، وبشرنا بحصولنا على المنحة تشجيعا لنا وتحفيزا لمتابعة الدراسات العليا ونيل شهادة الدكتورة..سرنا هذا الاستقبال الذي ينم عن الاعتراف والتقدير ، وافرحنا الفوز بالمنحة ، فالسفر الى الخارج ومتابعة الدراسة هناك….كانت أحلاما مغرية.
وجاءت العطلة ، موسم العودة الى الناظور ، عدت الى مدينتي يغمرني الفرح والرضا عن النفس ، انهيت المحطة الاولى من مساري الجامعي بتفوق..تمر الأيام وتمر الأسابيع، توارت مشاعر الغبطة ولسرور التي غمرتني مند اعلان النتائج….اختفت هذه المشاعر وحلت بدلها مشاعر الارتباك والقلق…مشاعر مصدرها عدم الحسم النهائي في اطار الصراع النفسي الشعوري من نوع اقدام
اقدام ،كان الاختيار صعبا ، هل أسافر الى باريس لمتابعة الدراسة أم أحضر ملف التعيين… وأخيرا لهذه الاسباب او تلك ، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية …ولكن يمكن أن أعترف اليوم بأنها لم تكن اسبابا حقيقية بل فقط مبررات الهدف منها طمأنة الذات وابعاد التوتر….صرفت النظر عن السفر وقررت القعود هنا واخترت مزاولة التدريس….ولقد تبين فيما بعد انه اختيار خاطئ ، اختيار ترتب عنه ندم ما زال يلازمني.
صيف 1980 جمعت الاوراق وهيأت الملف ، وضعته لدى الجهات المختصة في الرباط…إنني انتظر…في اكتوبر توصلت بالتعيين في إطار الخدمة المدنية ، استاذ بنيابة وجدة…وجدة التي لم أردها ولم تسؤني ، لم أردها لأنني لم أطلبها كاختيار ، اذ كان الاختيار الرباط او فاس كمدينتين جامعيتين عريقتين ، وكان الهدف هو العمل ومتابعة الدراسة ، خصوصا وانني أضعت فرصة الدراسة في فرنسا، وكان التبرير هو المكوث في المغرب والجمع بين التعليم والتعلم…وكان التعيين في وجدة وتبخرت الامال . إلا أن هذا التعيين لم يسؤني اذا قارنته بأصدقائي الدين تم تعيينهم في مناطق نائية ، في هوامش أقاليم الجنوب…لقد كنت محظوظا، اذن كان تعييني في مدينة وجدة. المدينة التي تسحر الداخلين وتفتح ابوابها التاريخية مرحبة بالوافدين.
في صباح يوم الاثنين 23 أكتوبر 1980 تسلمت تعييني من نيابة وجدة ، أستاذ بثانوية وادي الذهب ، وكانت ثانوية شابة، حديثة النشأة مقارنة بثانويات عريقة ، عمر بن عبد العزيز ، زيري بن عطية ، عبد المومن ، زينب النفزاوية….وكلها توجد في المركز ، في قلب مدينة وجدة…..وكانت ثانوية وادي الدهب ضمن ثانويات المحيط…ثانوية بحي لازاري ، يوم كان لازاري أرضا خلاء ، وحدها مع ثكنة السيمي يؤثثان المشهد…وكانت ثانوية وادي الدهب تستقطب كل ابناء وبنات لازاري والاحياء المجاورة له…..وكانت الثانوية بفضائها الشاسع جدا تجمعا بشريا معزولا عن المركز…بل كانت المتنفس الوحيد للتلاميذ والتلميذات ، كانت اكثر من ثانوية…فضاء عمومي تمارس فيه مختلف الانشطة وتفجر فيه الطاقات وتبرز فيه المواهب…فضاء للعلاقات الانسانية في ابعادها الوجدانية والعاطفية.
تعرفت على ثانوية وادي الدهب ، وقعت وثائق الالتحاق وتعرفت على مدير المؤسسة السيد لخضر حدوش ، شخصية استثنائية ، مسالمة….انسان يريد أن يبدو صارما ، ولكنها صرامة لا تخفي هشاشته….اشهد انه كان مخلصا في عمله ، التواجد في الثانوية وتدبير أمورها ….شغله الشاغل في الوجود …لم يكن خبيثا ، كان متسامحا. تسلمت جدول الحصص ، اسندت الى أقسام البكالوريا…المهمة جديدة شاقة وعسيرة ، تحدي ومسؤولية، وكانت البداية بمثابة اقتحام للمجهول….سأمارس فعل التفلسف كأستاذ ومدرس ، فجأة وبدون تحضير ، بدون تحضير بيداغوجي ولاتهيئ نفسي…..لقد جئت من الجامعة ، لم اتلقى اي تدريب مهني ولا اي تكوين تربوي….ادن ، علي ان اتقن دور الاستاذ ، استاذ الفلسفة ، وأنا لم اتدرب على هدا الدور من قبل….نعم لقد سبق أن تقمصت هدا الدور وانا صغير ، عندما كنت أقلد معلمي…..واهتديت الان الى استحضار تجارب الاساتدة الذين درسوني في مختلف الاطوار ، خصوصا التجارب الناجحة ، او على الأقل تلك كانت تبدو لي أنا ناجحة، واتخذتها كمرجعيات داعمة وموجهة ، واعتبرت أن النجاح يبدأ من التحضير الجيد للدروس ، وكدلك كان…بإرادة قوية وبرصيد معرفي ، بجرأة فكرية وتمكن لغوي ، بميكانيزمات التفكير واليات التحليل ، بصرامة المنطق ودقة المنهج….استطعت التغلب على الدهشة والانتصار على مشاعر الارتباك والتوتر….ويظهر أن انخراطي المبكر في العمل الحزبي والمشاركة في الاجتماعات والتجمعات ، في اللقاءات والتظاهرات، في المحاضرات والندوات…يظهر بأن كل هدا أكسبني تقنيات التواصل واكسبني قوة الخطاب وفن الالقاء….وهكذا ومنذ بداية البدايات انسجمت مع تلميذاتي وتلاميذي ، انتزعت اعترافهم وكسبت ثقتهم…وقبل دلك كسبت حبهم واحترامهم….ولتوفير شروط النجاح، كان علي أن اقرأ واراجع ، أن احضر واجتهد…أن أنسق مع زملائي في مختلف المواد، اولئك الذين سبقوني الى حقل التدريس…كنت أتعلم …وأسجل أنني كنت ابدل مجهودات كبيرة ، كنت احضر دروسي بمجهودات تفوق بكثير المجهودات التي أحضر بها الامتحانات وأنا طالب في الجامعة…كنت واعيا كل الوعي أن الفشل في الامتحان الجامعي يخصني أنا وحدي ، في حين ان الفشل في التدريس يمس الاخرين ، يضر بتلميذاتي وتلاميذي وتلك كانت مسؤولية أخرى.لما التحقت بعالم التدريس ، كنت في عمر الزهور ، بالكاد 24 سنة ، شابا يتدفق دينامية ونشاطا……اثبات الذات سيدة الميدان والطموح عنوان المرحلة…مرحلة الانتاج والعطاء….امال لاتنتهي واحلام لا حدود لها…تلاميذي وتلميداتي في سن يقارب سني ، منهم من يصغرني بعام او عامين، ومنهم من يكبرني بمثل المسافة العمرية ، فبعضهم تتلمذ على يدي ، نجح وتخرج فاشتغل وأتاه التقاعد قبل ان يأتيني….اذن، كانت شروط التواصل متوفرة ، وأسباب الانسجام قائمة….كنا نتقاسم نفس الهموم والافاق…..كانوا مناضلين ومناضلات ، جادين ومجتهدين….يتحدون الصعاب والمعيقات، ينتصرون على الفقر وكل أشكال المعاناة الاجتماعية…النجاح في الدراسة هو الحل…هو المستقبل….وفعلا نجحوا، نجحوا في الدراسة والحياة…هم الان أطر عليا في مختلف الحقول والمجالات ، في القطاع العام والخاص…أطباء ومهندسون، معلمون وأساتدة ، محامون واعلاميون، تجار ومقاولون ، فاعلون ومنتجون….فلهم الف تحية وتقدير….انهم جديرون بكل حب واحترام…تلاميذي وتلميذاتي ، أحبهم واعتز بهم ، اقدرهم وأفتخر بهم…..هم نغم في حياتي، سر وجودي وجوهر كينونتي…وان أجمل لحظة اعيش فيها انتشاء انطولوجيا ، هي اللحظة التي اصادف فيها ، ألتقي فيها ، احدهم احداهن في قطاع من القطاعات ، في مؤسسة أمنية ، اقتصادية ، اجتماعية، سياسية….في منصب من المناصب أو مسؤولية من المسؤوليات….فيخاطبني : استاذ هل تذكرني،أنا تلميذك،أنا تلميذتك…لقد ساهمت في بناء الانسان…في بناء الوطن.
تلميذات وتلاميذ ثانوية وادي الذهب في الثمانينات والتسعينات، في سنوات الجمر والرصاص…كانوا جادين ومجتهدين ، ناجحين ومتفوقين…ولكنهم ، في نفس الوقت، كانوا غاضبين ومتمردين….ظروف اجتماعية قاهرة جعلتهم يحتجون وينتفضون، يصرخون ويتظاهرون…يعلنون وجودهم ويسجلون مواقفهم….كانت ثانوية وادي الذهب بؤرة الاضرابات وقاطرة الاحتجاجات التلاميذية…هي البداية والمنطلق لكل انتفاضة تلاميذية بوجدة….من هنا كان الاشتغال في هذه الثانوية صعبا جدا….عيون الرقابة لا تنام ..الصاق النهم بالأساتذة جاهزة…البحث عن الأساتذة المحرضين على الشغب مستمر ودائم . وكان الأمر يقتضي الكثير من الحذر والترقب إبعادا لكل شبهة ،
وعلى كل استاذ خصوصا ذلك الذي يحمل صفة سياسي أن يبدي حسن السيرة .
كنا نشتغل في ظروف ملغومة…فتوقيف الاساتذة وقطع أرزاقهم ، ومختلف اشغال الترهيب والتخويف… كلها عناصر تدل على استثناء المرحلة بإخفاقاتها ونيرانها.
في الثمانينات ، كنا نحن اساتذة الفلسفة ، نعاني من تهمة أخرى ، تهمة خطيرة من حيث ابعادها المجتمعية ، وامتداداتها الهوياتية، وهي تهمة ألصقت بالفلسفة والفلاسفة العرب المسلمين ، منذ لحظة التأسيس الى القمة ابن رشد ، تهمة الكفر والزندقة….الزمن زمن محاصرة العقل والفلسفة ، والهدف هو الاطاحة باليسار، رمز النضال والتغيير…وانضافت الى اساليب القمع الجسدي اساليب القمع الفكري ، تضييق الخناق على الفلسفة واساتذتها ، وتشجيع المد الاصولي وحركات الاسلام السياسي ، تقليص حصص تدريس مادة الفلسفة ، اقصاؤها من الجامعة وتعويضها بشعبة الدراسات الاسلامية . وفي الثمانينات تم تغيير مقرر الفلسفة والغاء الكتاب المدرسي الذي أشرف على تأليفه اساتذة اكفاء ومقتدرون ، العمري ، اسطاتي والمفكر الكبير محمد عابد الجابري ، وتم تعويضه بمقرر الفكر الاسلامي والفلسفة بخلفيات وأهداف مغايرة ، تدمير اليسار واجتثاث الفكرالعقلاني النقدي…وكنا كأساتذة للفلسفة ومدرسين للفكر الاسلامي حريصين كل الحرص على تجنب كل قراءة تجلب لنا متاعب تهمة الخروج عن الدين… كنا نعلم تلاميذتنا ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال ) ونؤكد توافق الدين والفلسفة (فالحق لا يضاء الحق بل يوافقه ويشهد له ) كنا نحمل هم العقل والدفاع عن الفلسفة ، اعادة الاعتبار للفلسفة من خلال رفع التهم التي الصقت بها لاسباب سياسية وايديولوجية وبغطاءات دينية ، الاسلام يحرم الفلسفة بدعوى أنها كفر والحاد ، وهذا منتهى الجهل والبعد عن الله تعالى….كنا ندافع عن الفلسفة ، ندافع عن أنفسنا ، نؤسس للمشروع الديموقراطي الحداثي ونقاوم الاخطار التي تتهدد الانسان ، العقل والحرية….كنا نشعر بقدوم قوى العنف والتدمير…وتلك مسؤولية يتحملها كل من دعم وشجع هيمنة الفكر اللاعقلاني ..اولئك الذين كان يزعجهم خطاب العقل والحرية ، خطاب المنطق والنقد..اولئك الذين كانوا يعتقدون انه باقتلاع الفلسفة سيتم اقتلاع اليسار والقضاء على قوى التغيير…والاتي من الايام سيكشف عن أوهامهم ، عن اخطائهم، سيتبين لهم انهم كانوا يزرعون بذور العنف والارهاب…وكان الحل هو التصالح مع الفلسفة والاعتراف بشرعية وجودها…وحدها الفلسفة قادرة على زرع قيم الحب والانفتاح، التضامن والتسامح…وحدها قادرة على معانقة الانسان والجمال.
يناير 1981 ، بعد مرور ثلاثة أشهر في بداية مساري المهني كان الحدث، كان الموعد مع أول اختبار وأول تفتيش…ذات يوم ثلاثاء على الساعة 8 صباحا طرق المدير باب القسم مصحوبا بوافد غريب عن المؤسسة…انه السيد المفتش ، هكذا قدمه وعرفني به رئيس المؤسسة…لا أنكر انه عشت لحظتها كثيرا من القلق والتوتر….استاذ في بداية مشواره ، موظف في اطار الخدمة المدنية ، حديث العهد بالقسم ، تجربة في بداية التأسيس…للمفتش في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب سلطة خاصة ، سلطة ترعب وتخيف…لقد كانت المدرسة في هذه المرحلة ، مثلها مثل سائر المؤسسات، جهازا من أجهزة الدولة ، جهازا للقمع والردع ، للاخضاع والامتثال…وأعترف أن مفتش الفلسفة الاستاذ عبد الرحمان الريح ، رحمه الله ، بسلوكاته وممارساته، بتوجيهاته وارشاداته ، حطم كل الأحكام المسبقة والأطروحات الزائفة…معه رسمت صورة جديدة ، صورة جميلة للمفتش…هو المعلم والمربي ، المرشد والموجه، انه الأب الروحي…انه سقراط…عبد الرحمان الريح كان يقطن الرباط ومكلفا كمفتش بكل نيابات الشرق….وكنا ننتظر قدومه وزياراته…فهو المربي والانسان ، الأستاذ والمناضل…لقد كان مفتشا متميزا وممتازا…علمني كثيرا ، وشجعني كثيرا، ولعب دورا كبيرا في الاحتفاظ بي واد ماجي في وزارة التربية الوطنية وكنت مهددا بالتشطيب بعد انقضاء مدة الخدمة…وكان هذا سيفا متسلطا على جميع المتخرجين الجدد…
وكان الدرس الذي حضره المفتش مناسبة لاثبات الذات، ابراز الكفاءات المعرفية والمهارات المنهجية…وأتذكر انني قاربت اشكالية الفكر والواقع : المثالية والمادية . وعالجت هذه الاشكالية مع اول نسق فلسفي مثالي في تاريخ الفلسفة ويتعلق الامر بنظرية المثل عند أفلاطون ،وكانت اسطورة الكهف مدخلا بيداغوجيا لهذه النظرية . مر زمن الحصة سلسا وممتعا ، احسست انني نجحت ، تفوقت على نفسي وكان تلاميذتي في الموعد ، انخرطوا في الدرس وساعدوني في بنائه . وجاءت لحظة التقويم والمناقشة ،
وكانت الملاحظات دقيقة وموجهة…وكان الدعم والتنويه من طرف المفتش المقتدر…وكانت هذه لحظة ميلاد اخر في مساري المهني .
يونيو 1981 ،موعد امتحانات الدورة الأولى لنيل شهادة البكالوريا ،كلفت بالمراقبة في ثانوية وادي الذهب..حضرت الى المؤسسة على الساعة السابعة والنصف صباحا للقيام بمهمتي..دعاني المدير الى مكتبه وطلب مني الالتحاق فورا بثانوية عمر بن عبد العزيز بصفتي ملاحظا لتعويض استاذ تعذر عليه انجاز المهمة لأسباب صحية قاهرة…حاولت الاعتذار ،طلبت من المدير اعفائي وتكليف غيري،فهي مهمة أجهل تفاصيلها…حسم المدير الأمر بقوله ،ستتعلم ،وانت جدير بهذه المسؤولية…قبلت المهمة بمشاعر متناقضة ، ثقل المسؤولية يقلقني وثانوية عمر تجذبني…..وكان اللقاء مع مؤسسة عشقتها منذ الطفولة…تعرفت على المدير الاستاذ اسماعيلي ، الذي كان اسمه يسبقه، انه المدير الذي بصم مع الكبار ، رقم وازن في تاريخ المؤسسة….لاحظت وسجلت ، كل الشروط كانت متوفرة لانجاز الامتحانات…ولاحظت بعض التلاميذ المترشحين وبعض التلميذات المترشحات…مختلفون ،ليسوا كغيرهم….مثال للانضباط ونموذج للهدوء…هادئون وواثقون…تمر على أقسامهم فيخيل إليك أنها فارغة…تطل فتفاجأ بوجود تلاميذ يفكرون ويجيبون…كل يعتمد على نفسه وكل يراهن على ذاته…المراقبون في استراحة تامة. لما استفسرت عن أمر هؤلاء، قيل لي انهم تلاميذ وتلميذات العلوم الرياضية…انهم الاستثناء ، الأمل ،المستقبل….23 اكتوبر
1980 ، اذن ، عانقت وجدة ، المدينة التي لم يسبق لي أن زرتها ، أجهل تفاصيلها وأحياءها ، أهاليها وأمكنتها…لم اتعب كثيرا ، في شارع محمد الخامس استضافني مقهى كولومبو …مكان ليس ككل الأمكنة ، مقهى بنكهة خاصة وطقوس خاصة…منذ البداية عشقت المكان . ومازال هذا العشق يسكنني ، قد اغيب عن المكان ، وقد يطول هذا الغياب أحيانا ، ولكن الحنين يشدني دائما إلى أول مقهى….أحن الى قهوة كولومبو، الى حلوى كولومبو…الى خدمات كولومبو..منذ البداية لاحظت ان المكان متميز ، متميز من حيث خدماته ، متميز من حيث زبنائه..فضاء يقصده الفرنسيون والفرنسيات ، يرتاحون اليه ، يعتبرونه قطعة من مدينة الأنوار باريس…فضاءتلتقي فيه نخبة وجدة…فضاء محجوز للخاصة…لا يدخل هنا إلا من كان حداثيا…من كان مثقفا…فضاء للنقاش والتواصل…فضاء ثقافي وسياسي …عندما أجلس في مقهى كولومبو ، اعود الى ذاتي ، الى بداياتي الاولى في وجدة ، أتذكر زملائي وأصدقائي…اتذكر ميكي وسيمي وعبد الله…اتذكر حسن وحميدة وجيلالي وهم صغار…أتذكر أيام حبي لامرأة ستصبح زوجتي ،اتذكر الجلسات التي كانت تجمعني بها في كولومبو في مرحلة الخطوبة ومراحل بعد الخطوبة …ومازالت الجلسات في كولومبو تجمعنا ، مازالت مستمرة…اولادي وبناتي أحبوا المكان وهم صغار ، ومازالوا أوفياء للمكان وهم كبار…مقهى كولومبو رمز ثقافي وملتقى حضاري…في كولومبو حفق القلب لحب امراة اسمها فريدة ، زوجتي وأم غسان والياس ، صابرين وصفاء…في كولومبو خفق القلب للحب وللحياة في غشت من صيف 1982.
لم تكن مقهى كولومبو فضاء لتزجية الوقت ولا محطة لاستراحة المحارب اليومي اللاهث وراء شغف العيش بقدر ما أنها كانت مكانا رمزيا لاشتغال العين السوسيولوجية الفاحصة لتغيرات القيم والمواقف والأفكار ، او لنقل إن مقهى كولومبو كانت نقطة التلاقي التي يمكن أن نقرأ من خلالها تحولات المجتمع ، وأن نسمع عبرها أصوات التنافر والتجانس التي يحبل بها الواقع ، ثم نعيد تركيب السياقات والوقائع والرموز والأعلام في إطار نظيمة فعلي التأمل والتمثل ، وهما من المقومات المركزية في الكتابة الإبداعية ، التخييلية الرحبة ، وكذا في الاستثمار النظري التشريحي للقضايا الفكرية التي تنتجها الذوات الفردية والجماعية…لم تكن ، ولن تكون ، مقهى كولومبو فضاء يقع على هامش الحياة أو ملاذا لتبديد الوقت ،وممارسة بعض الألعاب الشعبية المتعارف عليها ببعض المقاهي..ولم تكن تجمعا لمشاهدة التلفزيون ومتابعة مباريات كرة القدم في اطار بطولة الليغا الاسبانية..إنها كانت عنصرا رئيسا في البنية العمرانية لمدينة وجدة ، وكانت المدة الزمنية التي نقضيها في مقهى كولومبو أكبر من مختلف الأزمنة الأخرى ، العمل والبيت ، فكانت المواعيد في كولومبو يومية وقارة…لعبت كولومبو دورا مهما في حياة زبنائها لتصبح شاهدا على مختلف العلاقات والأحداث والابداعات بين مرتاديها من أصحاب القلم ، كما لعبت أدوار طلائعية في اكتشاف الفنانين ومد جسور التواصل بين المبدعين ورجال السياسة ومختلف الفئات الاجتماعية ، ومنبعا لظهور عدة منابر صحافية…
ان مقهى كولومبو تذكرنا بظاهرة المقاهي والصالونات التي عرفتها فرنسا خلال القرن 18 ، عندما تحولت الى حضن لبلورة فكر الأنوار، وانتجت أعمالا كبيرة لا زالت تحظى براهنيتها الاكيدة ،رغم تغير الأزمة والأحوال . ومن خلال هذه الفضاءات ، أمكن قراءة المنطلقات النظرية والاجتهادات التنويرية للمرحلة بتتبع مسار التجارب المؤسسة لهوية التجديد الفكري الفرنسي للمرحلة ، مثلما هو الحال مع مشروع الانسكلوبيديا التي أنجزها ديدرو أو أعمال رواد الفكر السياسي المعاصر من أمثال مونتيسكيو وجان جاك روسو وفولتير….وغيرهم من الأعلام الذين جعلوا من المقهى ملتقى للفكر وللحوار وللإبداع…
شتنبر 2013 قررت أن ارحل من ثانوية وادي الذهب ،لقد تعبت من المكان وتعب مني . قضيت 33 سنة ، 1980-2013 ، مدرسا وأستاذا بهده الثانوية ، أحلى الأزمة عشتها في هذه المؤسسة ، دخلتها شابا وغادرتها شيبا ، اتذكر تلميذاتي وتلاميذي بكل فخر واعتزاز، أتذكر زميلاتي وزملائي بكل احترام وتقدير….دخلتها مندفعا متحمسا ، عاشقا للمهنة التي امنت بها عن قناعة واختيار…تمر الاعوام وتمضي السنوات….بدأ الفتور يغزوني ، فقررت أن أرحل….أن أغير الفضاء….وكان الانتقال إلى ثانوية عمر بن عبد العزيز ،وأخيرا ما كان حلما أصبح واقعا….استعدت حيويتي ونشاطي ، قوتي وحماسي….وكل شروط الاشتغال متوفرة….عمر بن عبد العزيز فعلا ثانوية ، بوليتكنيك المغرب .
اخترت أن أكون مدرسا لأن المدرس هو بوصلة المجتمع…هو من ينير الطريق، يعبدها، يصنع الأمل…لا أحد غيره يستطيع القيام بهده المهمة…المدرس يعقل ويفكر فيبني موقفه الذي انطلاقا منه يمارس ويفعل…موقف المدرس موقف متميز ،إنه يختلف كل الاختلاف عن موقف أي موظف اخر . إن موقف المدرس بحكم ممارسته للتربية والتكوين سيصبح موقفا للتلميذ، للتلاميذ ، موقفا للأباء ،موقفا لجزء كبير من المجتمع . إن المدرس بحكم مهنته حاضر بقوة في المجتمع ،حاضر بفكره ، بسلوكه ،بموقفه وقيمه . إن المدرس ،إذن ليس موظفا عاديا ،ولاينبغي له أن يكون كذلك ،فأي موقف يتخذه ،أي مبادرة تصدر عنه ،كل كلمة ينطق بها ،الخطاب الذي يتبناه….كل هذا وأكثر من هذا لا يلزمه هو وحده ،بل يلزم المحيط الذي يعيش فيه….تأسيسا على هدا مطروح علينا إشاعة موقف يساهم في البناء والتقدم ،موقف المواطنة والحداثة.
إن التواضع من فضائل المدرس ،لسبب بسيط هو أن المدرس يعلم تلميذه كون الحقيقة ليست مطلقة …
الحقيقة نطلبها دوما ولا نمسك بها ، لا أحد يمتلك الحقيقة إنطلاقا من التواضع السقراطي….إن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من طرف المدرس جريمة في حق التلميذ ، وما نعيشه اليوم من عنف وارهاب هو نتيجة لاعتقاد البعض بأن الحقيقة مطلقة . ان وهم امتلاك الحقيقة المطلقة يولد العنف والتطرف ،والتسلط ويصادر قيم الحب والتسامح ، ويلغي الحوار والانفتاح ويجذر ثقافة الالغاء والاقصاء ، من هنا وجب على المدرس أن يتعلم ويعلم بأن الحقيقة ننشدها ولانمتلكها ، على المدرس أن يتعلم ويعلم بأن زمننا هو زمن انهيار المطلقات. ان التعليم كفعل ضد البؤس الفكري ، والجهل والأمية….والممارس لحرفته جندي مسلح بالايمان بقضيته ، بتزهد ونكران الذات ، وعشق لمبادئ وقيم انسانية عليا….عبد السلام المساوي : سيرة ذاتية
مقتطف من كتابي : تلميذات و تلاميذ ثانوية وادي الذهب
مدينة وجدة التي سأستقربها ، بحكم الشروط المهنية أولا وبحكم الزواج والأبناء ثانيا….ويستمر هذا الاستقرار بحكم الارتباط الوجداني بهذه المدينة التاريخية والساحرة…..وهذا سر من بين أسرار كثيرة أخرى لهذه الحاضرة الممتدة في الزمان والمتجذرة في التاريخ ، قد تأتيها مكرها ، قد يفرض عليك التعيين المهني اقتحامها والسكن في أحضانها…وتمر الأيام ، وتمضي السنوات ..فترتبط بها وترتبط بك ، تطمئن إليها وتطمئن إليك …تجذبك بسحرها…تسكنك بجمالها…تنسيك جميع المدن والحواضر…أشهد انني يوم طلب مني تعبئة بطاقة اختيار المدن التي أريد الاشتغال بها ، لم أختر مدينة وجدة ونيابة وجدة ، بل اخترت مدنا أخرى ، مدن المغرب النافع، الرباط ، فاس ،مكناس…لكن أصحاب القراركان لهم رأي اخر ، وكان التعيين بنيابة وجدة في ثانوية وادي الذهب…من هنا كانت البداية ..وكان الاعلان عن ميلاد أستاذ جديد لمادة الفلسفة.
لا أنكر أنني عشت في الأيام الأولى ، في الشهورالأولى…بعض مظاهر القلق والإحباط ، دخلت عالم وجدة مرغما…دخلته في اتجاه معاكس لرغبتي واختياري..واليوم أعترف أن الاختيار قد يكون حلوا إنما التعيين أحلى ، وكذلك كان بالنسبة إلي، قدمت الى وجدة وأنا حزين ،وتبين مع مرور الايام وتوالي الأعوام أنه حزن مؤقت ،غير مشروع ، حزن مصدره التمثلات والتصورات الخاطئة ، مصدره الانطباعات الوهمية والأحكام المسبقة…حزن ينم عن جهل بتاريخية وجدة وثقافتها العريقة والغنية…ترتاح في هذه المدينة الامنة، تحبها وتحبك..تعشقها ، يرقد فيك هذا العشق ،قد يختفي في أحايين كثيرة ،ينسحب من ساحة الشعور ويغوص في اعماق اللاشعور…ولكن هذا العشق سرعان مايستيقظ بقوة ،ينتفض على اللاوعي ، يدمر الإخفاء والإختفاء..يستيقظ إذا عزمت الرحيل من وجدة ، او بمجرد التفكير في الرحيل…فالسلام علي يوم جئت الى وجدة ، ويوم تزوجت ابنة وجدة ، ويوم انجبت ولدين وبنتين..يعترفون ويعتزون بانتمائهم الى عاصمة شرق المغرب…يعشقون مدينتهم ولهم فيها مايعشقون.
وأنا صغير ، وأنا تلميذ باعدادية الكندي ، وأنا تلميذ بثانوية عبد الكريم الخطابي…بمدينة الناظور طبعا ،
المدينة التي رضعت حبها في حليب أمي ، غنيت حبها باللغة الأمازيغية في مختلف انتجاتها وتجلياتها…في مرحلة الطفولة ، اذن ، وفي مرحلة المراهقة بشغبها واحلامها، اكتشفت مدينة مغربية وكنت اجهل مدى قربها أو بعدها عن مدينتي..لقد كنا نحيا في عالم منغلق ، ابواب هذا العالم موصدة بفعل شروط ذاتية وموضوعية…تعرفت على مدينة وجدة عبر امواج الاذاعة ، اذاعة وجدة الجهوية….
وأنا طفل ، وأنا تلميذ ، كنت اتمنى دائما أن اصبح استاذا…عشقت هده المهنة واغرمت بالأستاذية….وكثيرا ما تقمصت شخصية المعلم والاستاذ ، وكنت اتقمص دور المدرس مع ابناء وبنات الأقارب والجيران….
يونيو 1980 نلت شهادة الاجازة في الفلسفة تخصص علم الاجتماع بميزة حسن ، وكنت الأول في دفعتي …مرتبة أهلتني لأحظى بمنحة متابعة الدراسة بفرنسا…استقبلني عميد كلية الاداب بمكتبه رفقة زميلي الطالب برهومي الوافد من بني ملال والذي احتل المرتبة الثانية…استقبلنا مهنئا ، وبشرنا بحصولنا على المنحة تشجيعا لنا وتحفيزا لمتابعة الدراسات العليا ونيل شهادة الدكتورة..سرنا هذا الاستقبال الذي ينم عن الاعتراف والتقدير ، وافرحنا الفوز بالمنحة ، فالسفر الى الخارج ومتابعة الدراسة هناك….كانت أحلاما مغرية.
وجاءت العطلة ، موسم العودة الى الناظور ، عدت الى مدينتي يغمرني الفرح والرضا عن النفس ، انهيت المحطة الاولى من مساري الجامعي بتفوق..تمر الأيام وتمر الأسابيع، توارت مشاعر الغبطة ولسرور التي غمرتني مند اعلان النتائج….اختفت هذه المشاعر وحلت بدلها مشاعر الارتباك والقلق…مشاعر مصدرها عدم الحسم النهائي في اطار الصراع النفسي الشعوري من نوع اقدام
اقدام ،كان الاختيار صعبا ، هل أسافر الى باريس لمتابعة الدراسة أم أحضر ملف التعيين… وأخيرا لهذه الاسباب او تلك ، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية …ولكن يمكن أن أعترف اليوم بأنها لم تكن اسبابا حقيقية بل فقط مبررات الهدف منها طمأنة الذات وابعاد التوتر….صرفت النظر عن السفر وقررت القعود هنا واخترت مزاولة التدريس….ولقد تبين فيما بعد انه اختيار خاطئ ، اختيار ترتب عنه ندم ما زال يلازمني.
صيف 1980 جمعت الاوراق وهيأت الملف ، وضعته لدى الجهات المختصة في الرباط…إنني انتظر…في اكتوبر توصلت بالتعيين في إطار الخدمة المدنية ، استاذ بنيابة وجدة…وجدة التي لم أردها ولم تسؤني ، لم أردها لأنني لم أطلبها كاختيار ، اذ كان الاختيار الرباط او فاس كمدينتين جامعيتين عريقتين ، وكان الهدف هو العمل ومتابعة الدراسة ، خصوصا وانني أضعت فرصة الدراسة في فرنسا، وكان التبرير هو المكوث في المغرب والجمع بين التعليم والتعلم…وكان التعيين في وجدة وتبخرت الامال . إلا أن هذا التعيين لم يسؤني اذا قارنته بأصدقائي الدين تم تعيينهم في مناطق نائية ، في هوامش أقاليم الجنوب…لقد كنت محظوظا، اذن كان تعييني في مدينة وجدة. المدينة التي تسحر الداخلين وتفتح ابوابها التاريخية مرحبة بالوافدين.
في صباح يوم الاثنين 23 أكتوبر 1980 تسلمت تعييني من نيابة وجدة ، أستاذ بثانوية وادي الذهب ، وكانت ثانوية شابة، حديثة النشأة مقارنة بثانويات عريقة ، عمر بن عبد العزيز ، زيري بن عطية ، عبد المومن ، زينب النفزاوية….وكلها توجد في المركز ، في قلب مدينة وجدة…..وكانت ثانوية وادي الدهب ضمن ثانويات المحيط…ثانوية بحي لازاري ، يوم كان لازاري أرضا خلاء ، وحدها مع ثكنة السيمي يؤثثان المشهد…وكانت ثانوية وادي الدهب تستقطب كل ابناء وبنات لازاري والاحياء المجاورة له…..وكانت الثانوية بفضائها الشاسع جدا تجمعا بشريا معزولا عن المركز…بل كانت المتنفس الوحيد للتلاميذ والتلميذات ، كانت اكثر من ثانوية…فضاء عمومي تمارس فيه مختلف الانشطة وتفجر فيه الطاقات وتبرز فيه المواهب…فضاء للعلاقات الانسانية في ابعادها الوجدانية والعاطفية.
تعرفت على ثانوية وادي الدهب ، وقعت وثائق الالتحاق وتعرفت على مدير المؤسسة السيد لخضر حدوش ، شخصية استثنائية ، مسالمة….انسان يريد أن يبدو صارما ، ولكنها صرامة لا تخفي هشاشته….اشهد انه كان مخلصا في عمله ، التواجد في الثانوية وتدبير أمورها ….شغله الشاغل في الوجود …لم يكن خبيثا ، كان متسامحا. تسلمت جدول الحصص ، اسندت الى أقسام البكالوريا…المهمة جديدة شاقة وعسيرة ، تحدي ومسؤولية، وكانت البداية بمثابة اقتحام للمجهول….سأمارس فعل التفلسف كأستاذ ومدرس ، فجأة وبدون تحضير ، بدون تحضير بيداغوجي ولاتهيئ نفسي…..لقد جئت من الجامعة ، لم اتلقى اي تدريب مهني ولا اي تكوين تربوي….ادن ، علي ان اتقن دور الاستاذ ، استاذ الفلسفة ، وأنا لم اتدرب على هدا الدور من قبل….نعم لقد سبق أن تقمصت هدا الدور وانا صغير ، عندما كنت أقلد معلمي…..واهتديت الان الى استحضار تجارب الاساتدة الذين درسوني في مختلف الاطوار ، خصوصا التجارب الناجحة ، او على الأقل تلك كانت تبدو لي أنا ناجحة، واتخذتها كمرجعيات داعمة وموجهة ، واعتبرت أن النجاح يبدأ من التحضير الجيد للدروس ، وكدلك كان…بإرادة قوية وبرصيد معرفي ، بجرأة فكرية وتمكن لغوي ، بميكانيزمات التفكير واليات التحليل ، بصرامة المنطق ودقة المنهج….استطعت التغلب على الدهشة والانتصار على مشاعر الارتباك والتوتر….ويظهر أن انخراطي المبكر في العمل الحزبي والمشاركة في الاجتماعات والتجمعات ، في اللقاءات والتظاهرات، في المحاضرات والندوات…يظهر بأن كل هدا أكسبني تقنيات التواصل واكسبني قوة الخطاب وفن الالقاء….وهكذا ومنذ بداية البدايات انسجمت مع تلميذاتي وتلاميذي ، انتزعت اعترافهم وكسبت ثقتهم…وقبل دلك كسبت حبهم واحترامهم….ولتوفير شروط النجاح، كان علي أن اقرأ واراجع ، أن احضر واجتهد…أن أنسق مع زملائي في مختلف المواد، اولئك الذين سبقوني الى حقل التدريس…كنت أتعلم …وأسجل أنني كنت ابدل مجهودات كبيرة ، كنت احضر دروسي بمجهودات تفوق بكثير المجهودات التي أحضر بها الامتحانات وأنا طالب في الجامعة…كنت واعيا كل الوعي أن الفشل في الامتحان الجامعي يخصني أنا وحدي ، في حين ان الفشل في التدريس يمس الاخرين ، يضر بتلميذاتي وتلاميذي وتلك كانت مسؤولية أخرى.لما التحقت بعالم التدريس ، كنت في عمر الزهور ، بالكاد 24 سنة ، شابا يتدفق دينامية ونشاطا……اثبات الذات سيدة الميدان والطموح عنوان المرحلة…مرحلة الانتاج والعطاء….امال لاتنتهي واحلام لا حدود لها…تلاميذي وتلميداتي في سن يقارب سني ، منهم من يصغرني بعام او عامين، ومنهم من يكبرني بمثل المسافة العمرية ، فبعضهم تتلمذ على يدي ، نجح وتخرج فاشتغل وأتاه التقاعد قبل ان يأتيني….اذن، كانت شروط التواصل متوفرة ، وأسباب الانسجام قائمة….كنا نتقاسم نفس الهموم والافاق…..كانوا مناضلين ومناضلات ، جادين ومجتهدين….يتحدون الصعاب والمعيقات، ينتصرون على الفقر وكل أشكال المعاناة الاجتماعية…النجاح في الدراسة هو الحل…هو المستقبل….وفعلا نجحوا، نجحوا في الدراسة والحياة…هم الان أطر عليا في مختلف الحقول والمجالات ، في القطاع العام والخاص…أطباء ومهندسون، معلمون وأساتدة ، محامون واعلاميون، تجار ومقاولون ، فاعلون ومنتجون….فلهم الف تحية وتقدير….انهم جديرون بكل حب واحترام…تلاميذي وتلميذاتي ، أحبهم واعتز بهم ، اقدرهم وأفتخر بهم…..هم نغم في حياتي، سر وجودي وجوهر كينونتي…وان أجمل لحظة اعيش فيها انتشاء انطولوجيا ، هي اللحظة التي اصادف فيها ، ألتقي فيها ، احدهم احداهن في قطاع من القطاعات ، في مؤسسة أمنية ، اقتصادية ، اجتماعية، سياسية….في منصب من المناصب أو مسؤولية من المسؤوليات….فيخاطبني : استاذ هل تذكرني،أنا تلميذك،أنا تلميذتك…لقد ساهمت في بناء الانسان…في بناء الوطن.
تلميذات وتلاميذ ثانوية وادي الذهب في الثمانينات والتسعينات، في سنوات الجمر والرصاص…كانوا جادين ومجتهدين ، ناجحين ومتفوقين…ولكنهم ، في نفس الوقت، كانوا غاضبين ومتمردين….ظروف اجتماعية قاهرة جعلتهم يحتجون وينتفضون، يصرخون ويتظاهرون…يعلنون وجودهم ويسجلون مواقفهم….كانت ثانوية وادي الذهب بؤرة الاضرابات وقاطرة الاحتجاجات التلاميذية…هي البداية والمنطلق لكل انتفاضة تلاميذية بوجدة….من هنا كان الاشتغال في هذه الثانوية صعبا جدا….عيون الرقابة لا تنام ..الصاق النهم بالأساتذة جاهزة…البحث عن الأساتذة المحرضين على الشغب مستمر ودائم . وكان الأمر يقتضي الكثير من الحذر والترقب إبعادا لكل شبهة ،
وعلى كل استاذ خصوصا ذلك الذي يحمل صفة سياسي أن يبدي حسن السيرة .
كنا نشتغل في ظروف ملغومة…فتوقيف الاساتذة وقطع أرزاقهم ، ومختلف اشغال الترهيب والتخويف… كلها عناصر تدل على استثناء المرحلة بإخفاقاتها ونيرانها.
في الثمانينات ، كنا نحن اساتذة الفلسفة ، نعاني من تهمة أخرى ، تهمة خطيرة من حيث ابعادها المجتمعية ، وامتداداتها الهوياتية، وهي تهمة ألصقت بالفلسفة والفلاسفة العرب المسلمين ، منذ لحظة التأسيس الى القمة ابن رشد ، تهمة الكفر والزندقة….الزمن زمن محاصرة العقل والفلسفة ، والهدف هو الاطاحة باليسار، رمز النضال والتغيير…وانضافت الى اساليب القمع الجسدي اساليب القمع الفكري ، تضييق الخناق على الفلسفة واساتذتها ، وتشجيع المد الاصولي وحركات الاسلام السياسي ، تقليص حصص تدريس مادة الفلسفة ، اقصاؤها من الجامعة وتعويضها بشعبة الدراسات الاسلامية . وفي الثمانينات تم تغيير مقرر الفلسفة والغاء الكتاب المدرسي الذي أشرف على تأليفه اساتذة اكفاء ومقتدرون ، العمري ، اسطاتي والمفكر الكبير محمد عابد الجابري ، وتم تعويضه بمقرر الفكر الاسلامي والفلسفة بخلفيات وأهداف مغايرة ، تدمير اليسار واجتثاث الفكرالعقلاني النقدي…وكنا كأساتذة للفلسفة ومدرسين للفكر الاسلامي حريصين كل الحرص على تجنب كل قراءة تجلب لنا متاعب تهمة الخروج عن الدين… كنا نعلم تلاميذتنا ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال ) ونؤكد توافق الدين والفلسفة (فالحق لا يضاء الحق بل يوافقه ويشهد له ) كنا نحمل هم العقل والدفاع عن الفلسفة ، اعادة الاعتبار للفلسفة من خلال رفع التهم التي الصقت بها لاسباب سياسية وايديولوجية وبغطاءات دينية ، الاسلام يحرم الفلسفة بدعوى أنها كفر والحاد ، وهذا منتهى الجهل والبعد عن الله تعالى….كنا ندافع عن الفلسفة ، ندافع عن أنفسنا ، نؤسس للمشروع الديموقراطي الحداثي ونقاوم الاخطار التي تتهدد الانسان ، العقل والحرية….كنا نشعر بقدوم قوى العنف والتدمير…وتلك مسؤولية يتحملها كل من دعم وشجع هيمنة الفكر اللاعقلاني ..اولئك الذين كان يزعجهم خطاب العقل والحرية ، خطاب المنطق والنقد..اولئك الذين كانوا يعتقدون انه باقتلاع الفلسفة سيتم اقتلاع اليسار والقضاء على قوى التغيير…والاتي من الايام سيكشف عن أوهامهم ، عن اخطائهم، سيتبين لهم انهم كانوا يزرعون بذور العنف والارهاب…وكان الحل هو التصالح مع الفلسفة والاعتراف بشرعية وجودها…وحدها الفلسفة قادرة على زرع قيم الحب والانفتاح، التضامن والتسامح…وحدها قادرة على معانقة الانسان والجمال.
يناير 1981 ، بعد مرور ثلاثة أشهر في بداية مساري المهني كان الحدث، كان الموعد مع أول اختبار وأول تفتيش…ذات يوم ثلاثاء على الساعة 8 صباحا طرق المدير باب القسم مصحوبا بوافد غريب عن المؤسسة…انه السيد المفتش ، هكذا قدمه وعرفني به رئيس المؤسسة…لا أنكر انه عشت لحظتها كثيرا من القلق والتوتر….استاذ في بداية مشواره ، موظف في اطار الخدمة المدنية ، حديث العهد بالقسم ، تجربة في بداية التأسيس…للمفتش في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب سلطة خاصة ، سلطة ترعب وتخيف…لقد كانت المدرسة في هذه المرحلة ، مثلها مثل سائر المؤسسات، جهازا من أجهزة الدولة ، جهازا للقمع والردع ، للاخضاع والامتثال…وأعترف أن مفتش الفلسفة الاستاذ عبد الرحمان الريح ، رحمه الله ، بسلوكاته وممارساته، بتوجيهاته وارشاداته ، حطم كل الأحكام المسبقة والأطروحات الزائفة…معه رسمت صورة جديدة ، صورة جميلة للمفتش…هو المعلم والمربي ، المرشد والموجه، انه الأب الروحي…انه سقراط…عبد الرحمان الريح كان يقطن الرباط ومكلفا كمفتش بكل نيابات الشرق….وكنا ننتظر قدومه وزياراته…فهو المربي والانسان ، الأستاذ والمناضل…لقد كان مفتشا متميزا وممتازا…علمني كثيرا ، وشجعني كثيرا، ولعب دورا كبيرا في الاحتفاظ بي واد ماجي في وزارة التربية الوطنية وكنت مهددا بالتشطيب بعد انقضاء مدة الخدمة…وكان هذا سيفا متسلطا على جميع المتخرجين الجدد…
وكان الدرس الذي حضره المفتش مناسبة لاثبات الذات، ابراز الكفاءات المعرفية والمهارات المنهجية…وأتذكر انني قاربت اشكالية الفكر والواقع : المثالية والمادية . وعالجت هذه الاشكالية مع اول نسق فلسفي مثالي في تاريخ الفلسفة ويتعلق الامر بنظرية المثل عند أفلاطون ،وكانت اسطورة الكهف مدخلا بيداغوجيا لهذه النظرية . مر زمن الحصة سلسا وممتعا ، احسست انني نجحت ، تفوقت على نفسي وكان تلاميذتي في الموعد ، انخرطوا في الدرس وساعدوني في بنائه . وجاءت لحظة التقويم والمناقشة ،
وكانت الملاحظات دقيقة وموجهة…وكان الدعم والتنويه من طرف المفتش المقتدر…وكانت هذه لحظة ميلاد اخر في مساري المهني .
يونيو 1981 ،موعد امتحانات الدورة الأولى لنيل شهادة البكالوريا ،كلفت بالمراقبة في ثانوية وادي الذهب..حضرت الى المؤسسة على الساعة السابعة والنصف صباحا للقيام بمهمتي..دعاني المدير الى مكتبه وطلب مني الالتحاق فورا بثانوية عمر بن عبد العزيز بصفتي ملاحظا لتعويض استاذ تعذر عليه انجاز المهمة لأسباب صحية قاهرة…حاولت الاعتذار ،طلبت من المدير اعفائي وتكليف غيري،فهي مهمة أجهل تفاصيلها…حسم المدير الأمر بقوله ،ستتعلم ،وانت جدير بهذه المسؤولية…قبلت المهمة بمشاعر متناقضة ، ثقل المسؤولية يقلقني وثانوية عمر تجذبني…..وكان اللقاء مع مؤسسة عشقتها منذ الطفولة…تعرفت على المدير الاستاذ اسماعيلي ، الذي كان اسمه يسبقه، انه المدير الذي بصم مع الكبار ، رقم وازن في تاريخ المؤسسة….لاحظت وسجلت ، كل الشروط كانت متوفرة لانجاز الامتحانات…ولاحظت بعض التلاميذ المترشحين وبعض التلميذات المترشحات…مختلفون ،ليسوا كغيرهم….مثال للانضباط ونموذج للهدوء…هادئون وواثقون…تمر على أقسامهم فيخيل إليك أنها فارغة…تطل فتفاجأ بوجود تلاميذ يفكرون ويجيبون…كل يعتمد على نفسه وكل يراهن على ذاته…المراقبون في استراحة تامة. لما استفسرت عن أمر هؤلاء، قيل لي انهم تلاميذ وتلميذات العلوم الرياضية…انهم الاستثناء ، الأمل ،المستقبل….23 اكتوبر
1980 ، اذن ، عانقت وجدة ، المدينة التي لم يسبق لي أن زرتها ، أجهل تفاصيلها وأحياءها ، أهاليها وأمكنتها…لم اتعب كثيرا ، في شارع محمد الخامس استضافني مقهى كولومبو …مكان ليس ككل الأمكنة ، مقهى بنكهة خاصة وطقوس خاصة…منذ البداية عشقت المكان . ومازال هذا العشق يسكنني ، قد اغيب عن المكان ، وقد يطول هذا الغياب أحيانا ، ولكن الحنين يشدني دائما إلى أول مقهى….أحن الى قهوة كولومبو، الى حلوى كولومبو…الى خدمات كولومبو..منذ البداية لاحظت ان المكان متميز ، متميز من حيث خدماته ، متميز من حيث زبنائه..فضاء يقصده الفرنسيون والفرنسيات ، يرتاحون اليه ، يعتبرونه قطعة من مدينة الأنوار باريس…فضاءتلتقي فيه نخبة وجدة…فضاء محجوز للخاصة…لا يدخل هنا إلا من كان حداثيا…من كان مثقفا…فضاء للنقاش والتواصل…فضاء ثقافي وسياسي …عندما أجلس في مقهى كولومبو ، اعود الى ذاتي ، الى بداياتي الاولى في وجدة ، أتذكر زملائي وأصدقائي…اتذكر ميكي وسيمي وعبد الله…اتذكر حسن وحميدة وجيلالي وهم صغار…أتذكر أيام حبي لامرأة ستصبح زوجتي ،اتذكر الجلسات التي كانت تجمعني بها في كولومبو في مرحلة الخطوبة ومراحل بعد الخطوبة …ومازالت الجلسات في كولومبو تجمعنا ، مازالت مستمرة…اولادي وبناتي أحبوا المكان وهم صغار ، ومازالوا أوفياء للمكان وهم كبار…مقهى كولومبو رمز ثقافي وملتقى حضاري…في كولومبو حفق القلب لحب امراة اسمها فريدة ، زوجتي وأم غسان والياس ، صابرين وصفاء…في كولومبو خفق القلب للحب وللحياة في غشت من صيف 1982.
لم تكن مقهى كولومبو فضاء لتزجية الوقت ولا محطة لاستراحة المحارب اليومي اللاهث وراء شغف العيش بقدر ما أنها كانت مكانا رمزيا لاشتغال العين السوسيولوجية الفاحصة لتغيرات القيم والمواقف والأفكار ، او لنقل إن مقهى كولومبو كانت نقطة التلاقي التي يمكن أن نقرأ من خلالها تحولات المجتمع ، وأن نسمع عبرها أصوات التنافر والتجانس التي يحبل بها الواقع ، ثم نعيد تركيب السياقات والوقائع والرموز والأعلام في إطار نظيمة فعلي التأمل والتمثل ، وهما من المقومات المركزية في الكتابة الإبداعية ، التخييلية الرحبة ، وكذا في الاستثمار النظري التشريحي للقضايا الفكرية التي تنتجها الذوات الفردية والجماعية…لم تكن ، ولن تكون ، مقهى كولومبو فضاء يقع على هامش الحياة أو ملاذا لتبديد الوقت ،وممارسة بعض الألعاب الشعبية المتعارف عليها ببعض المقاهي..ولم تكن تجمعا لمشاهدة التلفزيون ومتابعة مباريات كرة القدم في اطار بطولة الليغا الاسبانية..إنها كانت عنصرا رئيسا في البنية العمرانية لمدينة وجدة ، وكانت المدة الزمنية التي نقضيها في مقهى كولومبو أكبر من مختلف الأزمنة الأخرى ، العمل والبيت ، فكانت المواعيد في كولومبو يومية وقارة…لعبت كولومبو دورا مهما في حياة زبنائها لتصبح شاهدا على مختلف العلاقات والأحداث والابداعات بين مرتاديها من أصحاب القلم ، كما لعبت أدوار طلائعية في اكتشاف الفنانين ومد جسور التواصل بين المبدعين ورجال السياسة ومختلف الفئات الاجتماعية ، ومنبعا لظهور عدة منابر صحافية…
ان مقهى كولومبو تذكرنا بظاهرة المقاهي والصالونات التي عرفتها فرنسا خلال القرن 18 ، عندما تحولت الى حضن لبلورة فكر الأنوار، وانتجت أعمالا كبيرة لا زالت تحظى براهنيتها الاكيدة ،رغم تغير الأزمة والأحوال . ومن خلال هذه الفضاءات ، أمكن قراءة المنطلقات النظرية والاجتهادات التنويرية للمرحلة بتتبع مسار التجارب المؤسسة لهوية التجديد الفكري الفرنسي للمرحلة ، مثلما هو الحال مع مشروع الانسكلوبيديا التي أنجزها ديدرو أو أعمال رواد الفكر السياسي المعاصر من أمثال مونتيسكيو وجان جاك روسو وفولتير….وغيرهم من الأعلام الذين جعلوا من المقهى ملتقى للفكر وللحوار وللإبداع…
شتنبر 2013 قررت أن ارحل من ثانوية وادي الذهب ،لقد تعبت من المكان وتعب مني . قضيت 33 سنة ، 1980-2013 ، مدرسا وأستاذا بهده الثانوية ، أحلى الأزمة عشتها في هذه المؤسسة ، دخلتها شابا وغادرتها شيبا ، اتذكر تلميذاتي وتلاميذي بكل فخر واعتزاز، أتذكر زميلاتي وزملائي بكل احترام وتقدير….دخلتها مندفعا متحمسا ، عاشقا للمهنة التي امنت بها عن قناعة واختيار…تمر الاعوام وتمضي السنوات….بدأ الفتور يغزوني ، فقررت أن أرحل….أن أغير الفضاء….وكان الانتقال إلى ثانوية عمر بن عبد العزيز ،وأخيرا ما كان حلما أصبح واقعا….استعدت حيويتي ونشاطي ، قوتي وحماسي….وكل شروط الاشتغال متوفرة….عمر بن عبد العزيز فعلا ثانوية ، بوليتكنيك المغرب .
اخترت أن أكون مدرسا لأن المدرس هو بوصلة المجتمع…هو من ينير الطريق، يعبدها، يصنع الأمل…لا أحد غيره يستطيع القيام بهده المهمة…المدرس يعقل ويفكر فيبني موقفه الذي انطلاقا منه يمارس ويفعل…موقف المدرس موقف متميز ،إنه يختلف كل الاختلاف عن موقف أي موظف اخر . إن موقف المدرس بحكم ممارسته للتربية والتكوين سيصبح موقفا للتلميذ، للتلاميذ ، موقفا للأباء ،موقفا لجزء كبير من المجتمع . إن المدرس بحكم مهنته حاضر بقوة في المجتمع ،حاضر بفكره ، بسلوكه ،بموقفه وقيمه . إن المدرس ،إذن ليس موظفا عاديا ،ولاينبغي له أن يكون كذلك ،فأي موقف يتخذه ،أي مبادرة تصدر عنه ،كل كلمة ينطق بها ،الخطاب الذي يتبناه….كل هذا وأكثر من هذا لا يلزمه هو وحده ،بل يلزم المحيط الذي يعيش فيه….تأسيسا على هدا مطروح علينا إشاعة موقف يساهم في البناء والتقدم ،موقف المواطنة والحداثة.
إن التواضع من فضائل المدرس ،لسبب بسيط هو أن المدرس يعلم تلميذه كون الحقيقة ليست مطلقة …
الحقيقة نطلبها دوما ولا نمسك بها ، لا أحد يمتلك الحقيقة إنطلاقا من التواضع السقراطي….إن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من طرف المدرس جريمة في حق التلميذ ، وما نعيشه اليوم من عنف وارهاب هو نتيجة لاعتقاد البعض بأن الحقيقة مطلقة . ان وهم امتلاك الحقيقة المطلقة يولد العنف والتطرف ،والتسلط ويصادر قيم الحب والتسامح ، ويلغي الحوار والانفتاح ويجذر ثقافة الالغاء والاقصاء ، من هنا وجب على المدرس أن يتعلم ويعلم بأن الحقيقة ننشدها ولانمتلكها ، على المدرس أن يتعلم ويعلم بأن زمننا هو زمن انهيار المطلقات. ان التعليم كفعل ضد البؤس الفكري ، والجهل والأمية….والممارس لحرفته جندي مسلح بالايمان بقضيته ، بتزهد ونكران الذات ، وعشق لمبادئ وقيم انسانية عليا….