في زمن أصبح فيه تأمين العيش الكريم معركة يومية، تتفاقم الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، لتكشف أرقام المندوبية السامية للتخطيط واقعًا يزداد قتامة عامًا بعد عام. التقرير الأخير، الذي حمل بصمات “ناعمة” مقارنة بالتقارير السابقة، لم يستطع إخفاء الحقيقة الصادمة: شريحة واسعة من المغاربة باتت تتأرجح على حافة الفقر، وسط سياسات اقتصادية لم تفعل سوى توسيع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
ارتفاع معدل الهشاشة إلى 12.9% في 2022، بعد أن كان في حدود 7.3% في 2019، ليس مجرد رقم عابر، بل مؤشر على انهيار تدريجي يزحف بصمت، ليجعل الأسر المغربية أسيرة لواقع اقتصادي يزداد اختناقًا. المدن، التي لطالما كانت ملاذًا للباحثين عن حياة أفضل، لم تعد كذلك، بعدما ارتفع معدل الهشاشة الحضرية من 7.9% في 2014 إلى 9.5% في 2022، ما يعني أن الأزمة لم تعد حكرًا على القرى، بل امتدت إلى قلب النسيج الحضري، حيث تتحول أحياء بأكملها إلى بؤر للفقر المقنع.
التقرير يكشف عن مفارقة صارخة: دخل الأسر شهد تحسنًا طفيفًا، لكن القدرة الشرائية تآكلت بشكل أسرع. فرغم ارتفاع متوسط النفقة السنوية للفرد من 15.876 درهمًا في 2014 إلى 20.658 درهمًا في 2022، إلا أن هذا الرقم لا يعكس واقعًا أفضل، بل يخفي وراءه تراجعًا كارثيًا في مستوى المعيشة. الغذاء بات يستنزف 38.2% من ميزانية الأسر، بينما تقلصت النفقات على الصحة، التجهيزات، وحتى الترفيه، ما يعني أن الأسرة المغربية لم تعد تستهلك إلا ما يُبقيها على قيد الحياة، في دورة اقتصادية تقتل كل طموح بالتقدم.
تكاليف السكن والطاقة ارتفعت إلى 25.4% من ميزانية الأسر، في وقتٍ أصبحت فيه تكاليف النقل عبئًا إضافيًا يحد من حركية المواطن وفرصه الاقتصادية. ومع كل ذلك، لا تزال الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع بوتيرة مخيفة. الفئات الأكثر فقرًا، التي عرفت تحسنًا طفيفًا بين 2014 و2019، انتكست مجددًا بتراجع 4.6% بين 2019 و2022، بينما الـ20% الأكثر يسراً استمرت في النمو، ما يعكس اقتصادًا يُغذي اللامساواة بدل أن يعالجها.
الطبقة الوسطى، التي لطالما شكلت العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي، كانت أكبر الخاسرين. بعدما سجلت نموًا 3.3% بين 2014 و2019، عادت لتتراجع بمعدل 4.3% بين 2019 و2022، ما يجعلها اليوم طبقة متآكلة، عالقة بين سندان الضرائب والمصاريف المتزايدة، ومطرقة الغلاء الذي لا يرحم.
ورغم كل ما يُقال عن محاولات تقليص التفاوتات، فإن الفجوة بين المدن والقرى لا تزال شاسعة، فمتوسط مستوى المعيشة في الحواضر لا يزال أعلى بـ1.9 مرة من القرى، ما يؤكد أن التنمية الموعودة لم تتجاوز حدود الخطابات الرسمية.
الواقع يفرض اليوم أسئلة محرجة: أين ذهبت كل وعود تحسين المعيشة؟ لماذا لم تنجح البرامج الاجتماعية في كبح تآكل القدرة الشرائية؟ وكيف يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي في ظل انفجار أسعار المواد الأساسية واستمرار التضخم دون رقابة أو تدخل فعال؟
الحكومة مطالبة بأكثر من مجرد الحديث عن دعم اجتماعي عابر. المطلوب إصلاح عميق لهيكلة الأجور، ضبط الأسعار، كبح المضاربات، وتعزيز سياسات إعادة التوزيع العادل للثروة. الفقر والهشاشة ليسا مجرد أرقام في تقرير، بل قنابل اجتماعية موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، إذا استمرت الهوة بين الفقراء والأغنياء في الاتساع بهذا الشكل المخيف.
المغرب يعيش على وقع مفارقة مدمّرة: دخل الأسر يرتفع، لكن قدرتها الشرائية تنهار. المدن التي كانت ملاذًا اقتصادياً باتت ساحات للفقر الجديد. والأسرة المغربية، التي كانت تحلم بالاستقرار، باتت تخشى الغد أكثر مما تأمل فيه. فإلى متى سيدفع المغاربة ثمن خيارات اقتصادية لا تنصف سوى الأقلية؟