النهاية الرابعة للتاريخ ولمّا ينته!

هاشتاغ: مالك القعقور

نهاية التاريخ
لم يقدّر لهيغل[1] وماركس[2] أن يعيدا النظر في مفهوميهما لـ “نهاية التاريخ” كما قدّر لفوكوياما[3] الذي شغل المفكرين بهذا المفهوم بعد إحيائه منذ تسعينيات القرن العشرين وحتى اليوم. فهذه هي المرة الرابعة التي يتجدّد فيها طرح مفهوم “نهاية التاريخ” منذ أن أطلقه هيغل في أواخر القرن الثامن عشر بعد تأثره بالثورة الفرنسية[4] التي أنهت الصراع بين السّيّد والعبد، إذ رأى أنّه بذلك انتهى التاريخ، ثم جاء من بعده ماركس ليقول: إن التاريخ ينتهي عندما تسيطر البروليتاريا وتسود الاشتراكيّة ثم الشّيوعيّة وتُلغى الدولة.

وبعد عقود طويلة من طرحيْ هيغل وماركس، أدت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى سقوط جدار برلين وطغيان النموذج الأمريكي بثقافته وعولمته على العالم، مما دفع بفوكوياما إلى استعارة “نهاية التاريخ” من هيغل وإسقاطه على الواقع، ليقول: إن التاريخ انتهى بفوز النموذج الأمريكي. لكنه قبل سنوات قليلة، تراجع عن طرحه وأقرّ بخطئه، قائلاً إن التاريخ لن ينتهي إلّا بنهاية التقدم العلمي.

إذاً حدد فوكوياما نهايةً جديدةً للتاريخ هي نهاية التقدم العلمي، ليكون بذلك تحدث عن نهاية رابعة، قد لا تأتي أبداً…

وفي بحثنا هذا نستعيد تاريخ “نهاية التاريخ” وظروفها مع كل من هيغل وماركس قبل أن نستعرض أطروحتيْ فوكوياما. وكما هو معلوم فإنّ كل مفكر يُعبّر عن الزمن الذي يعيش فيه وظروفه، متأثراً بخلفيته الفلسفية، ومتطلعاً عبر نظرياته ورؤاه إلى ما هو أفضل. فما هي الخلفية الفلسفية التي انطلق منها كلٌ من هيغل وماركس؟

أ – مقارنة في الخلفية الفلسفية بين هيغل وماركس
بَنى كلٌ من هيغل وماركس نظريته الفلسفية وفق المبدأ الذي جعله منطلقاً لها، بما يتناسق مع الفترة التي عاش كل منهما فيها إذ “لا أحد يستطيع أن يقفز فوق عصره، وكل فيلسوف يحمل علامات عصره ويوجد في المكان الذي يعيش فيه”[5].

ففي القرن السابع عشر كان يسود حكم الإقطاع الكنسي في أوروبا، و”كانت القضية الأساسية التي تشغل الفلاسفة تتمحور حول مبدأ الوجود”[6]، وكانت الأسئلة المطروحة هي: هل هناك مبدأ خلاق سبق العالم؟ وهل يُمكن للعقل البشري معرفته وإدراك كُنهِه؟ وما هو هذا المبدأ الخلاق الذي يسمى بتسميات مختلفة باختلاف الأديان ومنها “الإله” و”يهوا” و”الله” وكذلك “الكلمة” عند المسيحية؟

وبينما كانت هذه الأسئلة في أوجِها، جاء إيمانويل كانط لينطلق من هذه المقدمة ويؤيدها إلى حدٍ ما في كتابه الشهير “نقد العقل المحض أو الخالص”، ثم ينقضها لاحقاً في كتابه “نقد العقل العملي”. ففي كتابه الأول يرى كانط أنه لا وجود البتة لأي برهان على وجود “الكلمة” وخلود النفس وأزلية الأفكار، وأنّ علمنا يقوم على أساس التجربة، معتبراً أنّ ماهيّة الأشياء المخفية وراء الظاهرة لن تكون أبداً في متناولنا.

أمّا في كتابه الثاني، فيقول ما مفاده أنّه إذا كان ممكناً الاستغناء في النظرية عن الله وخلود النفس، فلا بد في الممارسة من الاعتراف بتلك المبادئ جميعاً لأنّه من دونها يبقى النشاط بالذات مفتقراً إلى أساسٍ أخلاقي. فكانط “كان توفيقياً بين الفلسفتين القديمة والجديدة… وأقام جسراً بين المثالية والمادية”[7].

ثم جاء بعده فيخته وأيّد مبدأه القائم على “تفسير للكون كما هو عليه”[8]، معارضاً التّصور القديم عن قوة خاصة تتحكم بأمر الناس. وقدم تصوراً جديداً يجعل من الشخصية الإنسانية ونشاطها المصدر الرئيسي لكل نظرية وكل ممارسة.

نظام هيغل
وبعدهما جاء هيغل وبنى نظامه على نقد مذهبيهما، معتمداً مبدأ “تفسير العالم كما يتطور”. وكان المبدأ عنده الروح وليس الطبيعة، الفكرة وليس المادة. والمبدأ المحرّك هو الفكرة المطلقة. ويقول في تصدير كتابه “أصول فلسفة الحق” إنّ “مهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو موجود، لأنّ ما هو موجود هو العقل”[9].

وانطلاقاً من ملاحظته تغيّر الأشياء، اعتبر أن لا شيء ثابتاً، وعقل العالم وفكرته المطلقة لا يعيشان ولا يتجليان إلّا في سيرورة الحركة والتطور المتصل. فبحسب هيغل، في كل ظاهرة يحدث صراع بين مبدأي السّكون والحركة، أو ما يسميهما “الأطروحة” و”النقيضة”. ويؤدي صراع هذين المبدأين إلى شيء ما وسيط، إلى اتحادهما. وهكذا فإن الأفكار لا تستقر في أطروحة، بل تنقسم الأطروحة إلى فكرتين متعاكستين: النفي والإثبات، النعم واللا. ومن صراع هاتين المتعاكستين – النقيضة، تتكون الحركة وهي الجدل. ويتولد عن هاتين المتناقضتين فكرة جديدة هي تركيبهما. وهكذا صراع التناقضات هو مصدر كل تطور.

ثم جاء فيورباخ بعد هيغل، فقلب أطروحته الأساسية، نافياً إمكان أن تُحدد الفكرة المطلقة في تطورها، الكينونة كلها. واعتبر أنّ الكينونة هي التي تحدد الوعي، وأن الفكر والفكرة هما نتاج تلك الكينونة بالذات. والإنسان لم يخلقه الله بل هو خلق الله على صورته. الإنسان هو المبدأ الأساسي وأسمى الشرائع هي خير الإنسان بالذات. وعارض فيورباخ بذلك المبدأ اللاهوتي “ليدخل مبدأً جديداً هو الإنثروبولوجي”[10].

ثورية ماركس
ثم جاء ماركس فرفض المبدأ المثالي لهيغل، وأخذ بمبدأ عدم ثبات الأشياء، كما أخذ بفكرة فيورباخ بأن الإنسان هو المبدأ الأساسي، لكنه أضاف إليه المبدأ الثوري. ورأى أنّ دور الفلسفة ليس تفسير العالم فحسب بل تحويله أيضاً. واعتبر أنّ النظرية تكتمل بالنشاط العملي، “ليُدخل بذلك على الفلسفة المادية المبدأ الثوري، أي أنه حوّل فلسفة فيورباخ التأملية إلى فلسفة للعمل والنشاط”[11].

وبذلك، يقول ماركس إنه أوقف الجدل على رجليه بعدما كان هيغل أوقفه على رأسه، أي أنه كان قد انطلق في جدله من الفكرة، بينما انطلق ماركس من المادة.

الظروف الفكرية
والفرق في الظروف الفكرية بين هيغل وماركس شاسع، إذ أنّ الأول نشأ في ظروف دولة كانت تعاني من تفكك وفوضى، ويشهد وهو في ريعان الشباب الثورة الفرنسية ويتأثر بها، بينما جاء ماركس بعد هذه الأحداث المفصلية في أوروبا وفي عصرٍ كانت تسود فيه “الهيغلية”. فهيغل، اندفع في ظروفه في مقالته “دستور ألمانيا”، منطلقاً من مقولة “ألمانيا لم تعد دولة”، إلى تحليل ذاك الواقع وخيبة آمال المواطنين الألمان بأن تنهض ألمانيا من سباتها لتأخذ مكانها بين الأمم، ليخلص إلى القول أن “ألمانيا تعيش في فوضى دستورية أو فوضى سياسية، فهي حشد من الوحدات السياسية المستقلة، وعلاقاتها السياسية تحمل كل الدلائل على أنها تعيش حالة طبيعية أو تشكل دولة طبيعية أكثر منها دولة مدنية”[12].

أمّا الماركسية فجاءت في تاريخ الفلسفة بعد الهيغلية وكذلك بعد فيورباخ، الذي حاول قلب مبدأ هيغل بوضع فلسفة الإنسان مكان فلسفة الروح. وكان ماركس يرى أن مبدأ فيورباخ قائم بالضبط على مقاطعته النهائية لمثالية هيغل وتوكيده للمادية، التي “لم تكن في القرن الثامن عشر وبخاصة في فرنسا نضالاً ضد المؤسسات السياسية الراهنة وكذلك ضد الدين واللاهوت فحسب بل أيضاً ضد كل ميتافيزقية”، كما يقول في كتابه “العائلة المقدسة”[13].

الجدل
وبينما استطاع هيغل باستخدام منهجه المنطقي الذي سماه “الجدل”، أن يُثبت كيف أن أيّ شيء إنما يرتبط من حيث المبدأ بأيّ شيء آخر، وأنّ هذا الارتباط ينتهي في النهاية بتركيب الكُل، معتبراً أنّ “كل ما هو عقلي هو واقعي، وكُل ما هو واقعي هو عقلي”[14]، بنى ماركس مشروعه المتكامل من أجل الانتقال بالممارسة الفلسفية والاقتصادية على أسس علم جديد سمّاه علم التاريخ.

لكن هذا لا يعني أنّ هيغل لم يتطرق إلى مسألة التاريخ أو لم يُقاربها، بل كان التاريخ حاضراً في فلسفته وله رأيٌ فيه وفي نهايته أيضاً، وعلى خطاه سار ماركس في موضوعين أساسيين هما: المنهج الجدلي (الديالكتيك) و”نهاية التاريخ”. وهنا مقارنة في الموضوعين.

ب – مقارنة في المنهج الجدلي (الديالكتيك) بين هيغل وماركس
الديالكتيك كلمة مشتقة من لفظ يوناني، تعني التقاء الناس إلى المحاورة والنّقاش. ولمّا كانت الغاية من الحوار هي الإقناع، ولما كان الإقناع غير مُمكن من دون دليل أو برهان، اعتبر الديالكتيك (أو الجدل) فن البرهان. والحوار هنا يعني المناقشة التي قد تتم بين طرفين يبحثان عن الحقيقة في موضوع معين. غير أن كلاً من المتحاورين يحاول تدريجياً أن يفهم رأي الآخر، فينتهي الإثنان إلى الاتفاق على نبذ أفكارهما الجزئية وقبول نظرة جديدة أوسع وأرحب، لينتهي التعارض الأول إلى التوفيق في مركب أعلى.

وهكذا تمامًا، يقوم الديالكتيك عند هيغل وماركس على التناقض وصراع الأضداد. فعند هيغل نجد حركة الفكر، وعند ماركس نجد حركة المادة. لكنها حركة صراع وتناقض بين الأطروحة والطباق. وهذا الصراع لا يمكن تجاوزه إلّا بتركيب جديد منهما، يصبح هو الآخر أطروحة تستدعي طباقاً جديداً، وهكذا إلى ما لا نهاية، فـ “الديالكتيك هو القانون الذي وفقاً له يسير التاريخ وتتوالى الأحداث في الزمان”[15]

جدل هيغل
ويقول هيغل: “لقد كان الانتقال إلى شيء آخر هو بالطبع الجدل في دائرة الوجود، كما كان الانعكاس هو طابع الجدل في دائرة الماهيّة. أما طابع الجدل في دائرة الفكرة الشاملة فهو التطور أو النمو، وبواسطته يظهر ما هو ضمني (أو بالقوة). ويصبح علنياً صريحاً. والحياة العضوية في مملكة النبات هي التي تطابق مرحلة الفكرة الشاملة، كالنبات مثلاً ينمو من البذرة. وتتضمن البذرة بالقوة النبات كله”[16].

وبحسب هيغل فإن للمنطق من حيث الصورة، ثلاثة جوانب هي:

أ – الجانب المُجرد أو جانب الفهم.

ب – الجانب الجدلي، أو الجانب السلبي للعقل.

ج – الجانب النظري أو الإيجابي للعقل.

ويقول هيغل إن “هذه الجوانب الثلاث لا تكون ثلاثة أقسام من المنطق، إنّما هي مراحل أو لحظات لكل فكرة منطقية، أي لكل فكرة شاملة، ولكل حقيقة أياً كانت”[17].

ويذهب هيغل إلى أنّ الأضداد سواء في حالة الأفكار أو الأشياء في آن معاً، ينتقل بعضها إلى بعض عندما تقوى وتشتد. فالوجود مثلاً الذي تشتد قوته بدرجة كبيرة حتى تتلاشى من أمامه أيّ مقاومة، يسقط في الضعف والوهن، طالما أنه لم يعد أمامه خصم يختبره، ويكشف عن قوته ويغذيها. و”هذا المنهج لم يطبق في المنطق فقط، وإنما من خلال مؤلفات هيغل التي تعرض مذهبه كله “فلسفة الحق” مثلاً، تسير بطريقة مماثلة من الأسرة إلى المجتمع المدني إلى أن تصل إلى الدولة”[18].

الديالكتيك في الماركسية
أما الماركسية فتطبق قوانين الديالكتيك على المادة والطبيعة، وعلى المجتمع والتاريخ سواءً بسواء، وترى أن حركتهما حركة ديالكتيكية، أي أنّ الماركسية تجعل من الديالكتيك منهجاً ونظريةً وعقيدةً في آن.

كان ماركس وفردريك أنغلز[19] يريان في ديالكتيك هيغل أوسع مذهب من مذاهب التطور وأوفرها مضموناً وأشدها عمقاً وأثمن اكتساباً حققته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. وكانت كل صيغة أخرى لمبدأ التطور تتراءى لهما وحيدة الجانب، فقيرة المضمون تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور الذي يتميز أحياناً بقفزات وكوارث وثورات في الطبيعة والمجتمع. ويعتبر ماركس أن أسلوبه الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فـ”الديالكتيك الذي بلوره ماركس وأنغلز يؤكد أنه عرّى في الواقع هذه الملامح المشتركة للحركة الشاملة”[20].

وتقوم المادية الديالكتيكية على عمودين: الأول هو أولوية المادة على الوعي، وكون الوعي نفسه هو نتاج تطور شكل أرقى من المادة (الدماغ البشري). والثاني، أن هناك قوانين للديالكتيك تنظم عمليات الطبيعة والمجتمع والفكر. و يتجلى الديالكتيك، أو منطق الحركة، على ثلاثة مستويات:

ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كلياً، أي مستقل عن الوجود الإنساني وعن مشاريع الإنسان ونواياه أو حوافزه، وهو لا يفعل مباشرة في التاريخ البشري. لا يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى الإنتاج من استخدام قوانين الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية.

ديالكتيك التاريخ، وهو ديالكتيك موضوعي إلى حد بعيد أولاً، ولكن يشكل اقتحامه من جانب مشروع البروليتاريا، القاضي بإعادة بناء المجتمع وفقاً لبرنامج معد مسبقاً، انعطافاً ثورياً، حتى لو ارتبط وضع هذا المشروع وتحقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقاً ومستقلة عن إرادة البشر.

ديالكتيك المعرفة (الفكر الانساني) الذي هو ديالكتيك الموضوع – الذات بامتياز، هوناتج تفاعل مستمر بين الموضوعات المطلوبة معرفتها (موضوعات كل فرع من العلوم) وعمل الذوات التي تسعى لفهمها والتي يشترطها وضعها الاجتماعي، ووسائل التقصّي الموروثة الموضوعة تحت تصرفها – وسائل العمل كما المفاهيم – وتحويل تلك الوسائل عبر النشاط الاجتماعي الجاري إلخ.

بمقدار ما يشكل اكتشاف الديالكتيك الموضوعي طوراً من تاريخ المعارف والفكر البشري، يمكن أن نخضع لإغراء إرجاع كل الديالكتيك إلى ديالكتيك الموضوع – الذات، وهو ما يمكن اعتباره خطأ”[21].

ووفق النظرية الماركسية، ليس هناك من أمر نهائي مطلق مقدس أمام الفلسفة الديالكتيكية، وليس ثمة شيء قادر على الصمود في وجهها غير الحركة التي لا تنقطع، حركة الصيرورة والفناء، حركة التصاعد أبداً دون توقف من الأدنى إلى الأعلى. فالديالكتيك – في نظر ماركس- هو علم القوانين العامة للحركة، سواء في العالم الخارجي أم في الفكر البشري، وبالتالي على “الديالكتيك المادي أن يتناول كل ظاهرة، وكل موضوع تحليل ومعرفة، ليس فقط ليحدد تناقضاته الداخلية التي تتحكم بتطوره بل عليه أن يسعى كذلك لتناول تلك الظاهرة بصورة إجمالية وأن يفهمها بكل جوانبها، ويعتبرها بكُليتها، ويتحاشى كل مقاربة من جانب واحد، تعزل هذا الوجه الخاص أو ذاك من وجوه الواقع عزلاً اعتباطياً، وتلغي بالاعتباط ذاته هذا أو ذاك من وجوه الواقع، وتعجز بالتالي عن فهم التناقضات بمجملها، أي عن فهم الحركة بكليتها. إنّ قدرة الديالكتيك هذه على أن يدمج في تحليله “المنهج الشمولي” هي إحدى جداراته الرئيسية. و”منطق الحركة” و”منطق التناقض” و”منطق الكلية” مرادفات على المستوى العملي”[22].

وكان أنغلز وماركس يعتقدان بأنهما الوحيدان اللذان عملا لانقاذ الديالكتيك الواعي من المثالية بما فيها الهيغلية نفسها، عبر إدخاله في المفهوم المادي للطبيعة التي هي محك الاختبار، خصوصاً أنّ الطبيعة تعمل في نهاية المطاف على نحو ديالكتيكي وليس على نحو ميتافيزيقي.

لدى وصف ماركس وأنغلز ماديتهما، يشيران عادة إلى فويرباخ باعتباره الفيلسوف الذي أعاد المادية إلى صوابها، إلّا أن هذا لا يعني أن مادية ماركس وأنغلز متطابقة مع مادية فويرباخ. في الواقع أخذ ماركس وأنغلز من مادية فويرباخ “لُبّها” الداخلي وطوّراه إلى نظرية المادية العلمية الفلسفية ونبذا “قشرتها” المثالية الدينية الإثنية. فالمادية الفلسفية الماركسية، هي في الأساس الضدّ المباشر للمثالية الفلسفية. وعلى العكس من المثالية التي تعتبر العالم تجسيداً لفكرة مطلقة لروح كونية للوعي، تعتبر مادية ماركس الفلسفية أن العالم بذات طبيعته، مادة. وأن الظواهر المتعددة الأوجه للعالم تؤلف أشكالاً مختلفة لمادة في حركة. وأنّ الترابط المتبادل والاعتماد المتبادل للظواهر الذي يحققه الأسلوب الديالكتيكي، هو قانون تطور المادة المتحركة. وأن العالم يتطور وفقا لقوانين حركة المادة بلا حاجة إلى “روح كونية”.

هذا اختلافهما في الديالكتيك فهل اتفقا في شأن نهاية التاريخ؟ أم قدّم كل منهما نهاية مختلفة، وما هو التاريخ أصلاً؟

ج – تصوّر هيغل وماركس عن التاريخ
لكلمة التاريخ معنيان: الأول سلسلة الأحداث التاريخية، والثاني تفسير أو دراسة، هذه الأحداث. ومن هنا كان لـ “فلسفة التاريخ معنيان مناظران: أولاً التاريخ النظري أي مجرى الأحداث التاريخية. وثانياً: طبيعة ومناهج تفسير الأحداث التاريخية”[23]. وتصور هيغل وماركس للتاريخ، يبنى على هذين التفسيرين.

فنهاية التاريخ لا تعني نهاية الأحداث، بل التاريخ من حيث هو عملية مفردة متلاحمة وتطورية متى ما أخذنا في الاعتبار تجارب كل الشعوب في جميع العصور، و”ارتبط هذا الفهم للتاريخ أوثق ارتباط بالفيلسوف الألماني هيغل، ثم أضحى جزءاً من مناخنا الثقافي اليومي بفضل كارل ماركس الذي استعار هذا المفهوم عن التاريخ من هيغل، وهو مفهوم يتضمنه ويوحي به استخدامنا لكلمات مثل: بدائي أو متقدم أو تقليدي أو حديث عند الإشارة إلى مختلف صنوف المجتمعات البشرية”[24].

فعند هيغل، تتعارض النزعة التاريخية مع الخلود. أي أنّ الشخص غارق بعمق في الموقف التاريخي ويتشكل بواسطته، بحيث لا يستطيع أن يتناسخ في موقف تاريخي آخر أو يواصل وجوده خارج التاريخ في مجتمع يتألف من أرواح خالصة، إذ أن “التاريخ عند هيغل ينتهي في الحاضر”[25]. فالرغبة في نيل الاعتراف والتقدير وما يصاحب هذه الرغبة من مشاعر الغضب والخجل والخفر، هي جوانب من جوانب الشخصية الإنسانية بالغة الأهمية في مجال الحياة السياسية، و”هي عند هيغل المحرك لعملية التاريخ بأسرها”[26].

تفسير هيغل
والتفسير الرئيسي للتاريخ يعرضه هيغل في كتابه “محاضرات في فلسفة التاريخ” ،وهو يحمل في مقابل التفسير السابقين عليه، “سمتين متميزتين: الأولى أنه يتشكك في مزاعم المؤرخين الفلاسفة في تزويدها بمعلومات عن نهاية التاريخ (أو بدايته) التي فات على المؤرخين التجريبيين إدراكها.

والسمة الثانية: أن هيغل ينظر إلى التاريخ الفلسفي على أنه نظام ثانٍ من البحث يستخدم استخداماً جوهرياً نتائج المؤرخين الآخرين، إذ ينبثق التاريخ كرواية للأحداث وفي نفس الوقت كأعمال وأحداث تاريخية بالمعنى الدقيق. والمجتمعات التي لا تكتب التاريخ ليس لها تاريخ. فالأعمال والأحداث التاريخية تتطلب وعياً ذاتياً يكشف عن نفسه في الكتابة التاريخية. والطبيعة أيضاً في نظر هيغل ليس لها تاريخ وإنما هي تتطور وتتغير في دورات وبطرق متكررة”[27].

أما في ما يتعلق بتفسير هيغل للتاريخ الكلي أو العام، فإنه يرى أنّ التاريخ الكُلي ليس التاريخ الأصلي، أي تاريخ الرواة الأوائل، وليس التاريخ النظري الذي يفسر الوقائع ويستخرج من الماضي أمثولات عملية: إنه التاريخ الفلسفي الذي يتحكم بالأحداث من وجهة نظر كلية ولا زمانية. فالعقل بالنسبة إلى هيغل هو في الواقع جوهر التاريخ بالذات. ويتمثل هذا الكشف التدريجي في ما نلاحظه من تطور الشعوب في حقبة تاريخية معينة، وفي مكان معين من العالم، ويستمر هذا الشعب في تطوره الحضاري إلى أن يحفظ تتابع هذه الدول وحضارتها عبر التاريخ العالمي للبشرية. فهو الفكرة المطلقة التي تكشف عن نفسها بهذه الصورة التي تحفظ للعالم البشري استمراره وترابطه من خلال هذا التتابع في الوجود الحضاري التاريخي، وهكذا يصبح تاريخ العالم متمثلاً في حكم صادر على هذا العالم من خلال تطوره التاريخي العام للبشرية.

فهيغل كان يفكر بمفردات الدولة، وأراد تأسيسها نظرياً وتدعيمها عملياً، والسير بها إلى حدها الأخير الاجتماعي والمنطقي. وهدف التاريخ عند هيغل هو “الدولة العادلة العقلانية تماماً، التي سوف تضمن الحرية الضرورية للتطور التام للقدرات البشرية”[28].

ومن هنا، أصبحت قوة الدولة وتماسكها لدى هيغل، معيار التمتين السياسي لعناصرها والبنى التي تحملها، بما في ذلك المعرفة، ووعي الذات والثقافة، خصوصاً أنّ هيغل رأى أنّ “التاريخ وصل إلى نهايته بقيام الثورتين الأميركية والفرنسية بالنظر إلى أن هذا النضال من أجل الاعتراف الذي كان يحرك عملية التحول التاريخي، قد حقق مراده في مجتمع يتميز بالاعتراف المتبادل والشامل، ونظراً إلى أنه ليس هناك ترتيب آخر للمؤسسات الاجتماعية الإنسانية يمكنه أن يشبع هذه الحاجة على نحو أفضل، فليس بالإمكان حدوث المزيد من التحولات التاريخية بعد الآن”[29].

الماركسية وعلم التاريخ
وفي المقابل، فإن الماركسية تعرف بأنها علم التاريخ. إنها سيستام من المفاهيم العلمية الجديدة التي تعالج موضوعاً جديداً هو التاريخ، إذ حتى أيام ماركس لم يكن يوجد سوى بعض المبادئ الأولية الأيديولوجية لفلسفات التاريخ، خصوصاً أن “علمنا في مجال تاريخ البشرية لأشد تخلفاً بكثير منه في مجال البيولوجيا، وإذا نجحنا أحياناً – كاستثناء – أن نعرف العلاقة الداخلية لأشكال الوجود الاجتماعية والسياسية لفترة تاريخية ما، فهذا كقاعدة لا يحصل إلا بعد أن تكون تلك الأشكال قطعت نصف حياتها فأصبحت تتجه إلى الزوال. ومن ثم فالمعرفة هنا تحمل في الجوهر طابعاً نسبياً، لأنها محدودة بتبين علاقات وآثار أشكال اجتماعية وأشكال للدولة معينة، موجودة فقط في وقت معين وعند شعوب معينة وهي بطبيعتها عابرة، ولهذا فإن من يجري هنا وراء الحقائق النهائية الأخيرة، من أجل الحقائق الأصيلة التي لا تتغير بشكل عام، لن يستفيد إلا قليلاً”[30].

فماركس يفكر بحدود المجتمع، حيث الاجتماعي أكثر عيانية وأكثر عقلانية من السياسي وهو مكوّن الإنساني. وتتغيّر العلاقات الاجتماعية وفقاً لخط صاعد هو التاريخ. والتطوّر يتخطى العقبات، يحطمها أو يعبرها في زمن تاريخي متصل ومنفصل في آن معاً. أما الدولة فإنها تصير عقبة في طريق التطوّر، لذلك تتلاشى خلال تحوّل حاسم، خلال أزمة جذرية. وخلال هذه الاستحالة تغتني علاقات الإنتاج المنجزة (علاقات الملكية) والمنظمة (العلاقات القانونية والعقدية) التي تقوم على الملكية الخاصة أو تتخلص من تحدياتها.

وتقسِّم الماركسية هذه اللحظة التاريخية أو تلك، إلى المراحل الدنيا، والمتوسطة، والعليا. وبناءً على ذلك، تقسِّم الماركسية المهمة التاريخية للطبقة البروليتارية إلى مهمات مرحلية مختلفة، تبدأ ببرنامج الحد الأدنى، وتمر ببرنامج الحد الأقصى، وتنتهي بالشيوعية.

لقد عبّر ماركس مع أنغلز بصورة موجزة عن العقدة الأساسية في معالجة التاريخ كموضوع جديد لعلم خاص في “البيان الشيوعي”، بقولهما إن تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع الطبقي. والحركة العمالية في ذاتها التعبير عن الصراع الطبقي الذي يهدف في النهاية، بواسطة الثورة الاشتراكية وديكتاتورية البروليتاريا إلى إزالة الطبقات. ويقولان: “مع زوال التناحر بين الطبقات داخل الأمّة يزول موقف العَدَاء من الأمم”[31]

3 – نتيجة كارثية
قبل الحربين العالميتين، كانت أفكار هيغل وماركس سائدتين في أوروبا، ويقال إن أكثر من تأثر بهما خطأ هما أدولف هتلر وجوزف ستالين.

ومثلما يقال إن ستالين فهم معنى ثورة البروليتاريا خطأ أو استلهم قانون “وحدة الأضداد وصراعها” وفهمه فهماً خاطئاً، حتى أسس دولة الاتحاد السوفياتي التي طبّق فيها النظام الاشتراكي قريباً من نصف قرن، ولم يصل إلى المرحلة الشيوعية، قيل إن أدولف هتلر(1889-1945) القائد الألماني وزعيم الحزب الاشتراكي الوطني الذي اشتهر بالحزب “النازي” الذي لم يكن أقل شراسة وإبادة، فهم هيغل على هواه، فهمه فهماً قاده إلى قوة العرق الآري. إذ يقال إن هيغل يفترض أن الأجناس والقوميات تمثل مراحل مختلفة من تطور “الروح المطلق” وبالتالي لا بد من وجود فروق بين القوميات في مجال التطور الثقافي لا يمكن إزالتها وستبقى إلى الأبـد، وأن تمجيد هيغل للحضارة الجرمانية كان البداية الأولى للشعور الألماني بالتعالي والتفوق على الأجناس الأخرى، هذه الفكرة التي سيطورها هتلر في كتابه “كفاحي” ويمنع زواج الألمان من الأجناس الأخرى لئلا يختلط دمهم النقي بدمائهم الفاسدة. وأدت هذه الأفكار العدوانية فيما بعد إلى حد إلغاء حق الشعوب الأخرى في الوجود، عبر تصفيتها ومحاولة إفنائها، فانطلقت عمليات الموت الجماعي أثناء الحرب العالمية الثانية، “والواقع أن التاريخ الإنساني لم يعرف قط إبادة جماعية كتلك التي قامت بها الأنظمة الشمولية في ألمانيا الهتلرية وروسيا الستالينية (..) إن هتلر وستالين وضعا التكنولوجيا الحديثة والتنظيم السياسي الحديث في خدمة الشر”[32]، بحسب تعبير فوكوياما، فما كانت رؤيته هو لنهاية التاريخ؟

– فوكوياما وخاتم البشر فنهاية تطور العلم
عام 1989 انتهت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي لمصلحة الأولى إذ انهار جدار برلين وتفكك الثاني إلى دول كثيرة. حينها استعار فوكوياما من هيغل “نهاية التاريخ” وكتب مقالاً في مجلة the National interst ، بعنوان “هل هي نهاية التاريخ؟” ثم طوره إلى كتاب بعنوان “نهاية التاريخ وخاتم البشر” مما فتح سجالات ثقافية وسياسية واستراتيجية في أنحاء كثيرة من العالم، إذ أثار رودوداً تباينت بين تأييد وتحفظ ورفض، حتى جاء صامويل هنتغتون[33] ليرد عليه بأطروحة “صدام الحضارات”.

وبينما رأى فوكوياما أن نهاية الحرب الباردة تمثل المحصلة النهائية للمعركة الإيديولوجية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، اعتبر هنتنغتون أن هزيمة الاتحاد السوفيتي وضعت حداً لجميع الخلافات الأيديولوجية لكنها لم تنه التاريخ فـ “الثقافة هي التى ستحكم العالم وليس السياسة أو الاقتصاد. والعالم ليس واحداً. الحضارات توحد العالم وتقسمه.. الدم والإيمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من أجله”[34].

1 هزيمة الإيديولوجيات
وثمة من يفسر ما قصده فوكوياما في مقاله الذي نشره بعنوان “هل هي نهاية التاريخ؟” في مجلة the National interst صيف عام 1989، بأن هناك إجماعاً ملحوظاً قد ظهر في السنوات القليلة الماضية في جميع أنحاء العالم، حول شرعية الديموقراطية الليبرالية كنظام للحكم بعد أن لحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة مثل الملكية والوراثية، والفاشية، والشيوعية في الفترة الأخيرة. وأن الديموقراطية الليبرالية قد تشكل “نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية والصورة النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ”[35].

ويطرح فوكوياما سلسلة من الأسئلة التي تؤرق العصر الراهن حول “نهاية التاريخ”، من هو المخلوق الذي سيظهر في نهاية المطاف أي “خاتم البشر”، وهل يدور احتمال نهاية التاريخ حول مسألة ما إذا كان ثمة بدائل معقولة نراها في عالم اليوم للديموقراطية الليبرالية؟ وهل ماتت الشيوعية حقاً؟ وما إذا كان ثمة احتمال لعودة الدين أو المذاهب القومية الفاشية؟

2- السؤال الأصعب
ويقول فوكوياما: إن السؤال الأصعب والأعمق إنما يتصل بصلاحية الديموقراطية الليبرالية ذاتها وليس فقط باحتمال انتصارها على منافسيها في عالم اليوم. فعلى فرض أن الديموقراطية الليبرالية أصبحت الآن آمنة من خطر أعدائها، فهل بوسعنا أن نفترض إمكان استمرار المجتمعات الديموقراطية الناجحة على حالها إلى الأبد؟ أم أن للديموقراطية الليبرالية تناقضات داخلية هي من الخطورة بحيث يمكن في النهاية أن تزعزع من دعائمها كنظام سياسي؟ ما من شك في أن الديموقراطيات المعاصرة تجابه عدداً من المشكلات الكبيرة، كالمخدرات، والتشرد، والجريمة، وتدمير البيئة، وتفاهة المجتمع ذي النزعة الاستهلاكية، غير أن هذه المشكلات لا يمكن التدليل على أنه من المستحيل التصدي لها بالعلاج على أساس من المبادئ الليبرالية، ولا هي من الخطورة بحيث يمكن القول بأنها ستؤدي بالضرورة إلى انهيار المجتمع ككل، كما انهارت الشيوعية في عقد الثمانينات[36]. ولكن هل بقي فوكوياما عن رأيه وتلك النهاية للتاريخ؟

3 – نهاية جديدة التاريخ
بعد أقل من عقدين على إحياء فوكوياما مفهوم “نهاية التاريخ” وربطه بأحداث سياسية واجتماعية عقب سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي كما أسلفنا، وجد فوكوياما نفسه أمام معطيات جديدة تتعلق بالإنسان نفسه، مما دفعه إلى وضع كتاب جديد في 2005 عنوانه “نهاية الإنسان أو مستقبلنا ما بعد الإنساني”. ويتحدث صاحب “نهاية التاريخ وخاتم البشر” في كتابه الجديد عن عدم صواب فكرته الأولى عن نهاية التاريخ، معرباً عن اعتقاده بأن التاريخ لن ينتهي إلاّ بانتهاء التقدم العلمي الذي هو في مرحلة نمو هائلة، قائلاً إن “التقدم في علم الحياة والتقنيات المتعلقة بها سيؤدي إلى نقل الإنسان إلى مرحلة ما بعد الإنسانية”[37].

وكذلك يبيّن أن فكرته حول نهاية التاريخ التي أوردها في كتابه السابق بهذا المسمى، والتي مؤداها أن التاريخ قد انتهى بالنموذج الغربي في الحياة الليبرالية الديموقراطية، كانت غير صائبة. ويرى أن “التاريخ لن ينتهي إلا بنهاية التقدم العلمي والذي يبدو أنه قد وضعنا على الطرف المدبب لواحدة من أخطر مراحل التقدم العلمي في التاريخ. والسبب في ذلك يعود إلى تأثير التقدم العلمي خاصة في التكنولوجيا الحيوية على الطبيعة البشرية التي بدورها تحدد النسيج المجتمعي لبني الإنسان”[38].

الخاتمة
رأينا أن نهاية التاريخ لا تعني نهاية الأحداث بل هي تفسير أو دراسة هذه الأحداث من منظار فلسفي، دراسة للتاريخ من حيث هو عملية مفردة متلاحمة وتطورية، متى ما أخذنا في الاعتبار تجارب كل الشعوب في جميع العصور. وهو “مفهوم يتضمنه ويوحي به استخدامنا لكلمات مثل: بدائي أو متقدم أو تقليدي أو حديث، عند الإشارة إلى مختلف صنوف المجتمعات البشرية”[39].

ومن هنا، فإن “نهاية التاريخ” لدى هيغل كانت متأتية من مجتمع معين في ظروف معينة ومختلفة تماماً عن الظروف التي عاش فيها ماركس، كما أن ظروف فوكوياما كانت مختلفة عن الظرفين السابقين، وكذلك المجتمعات التي عاش فيها الثلاثة كانت مختلفة كلياً. وكل منهم خاطب اللحظة التي هو فيها، واللحظة المستقبلية من منظاره.

وكما أسلفنا، فإن هيغل نشأ في ظروف دولة (ألمانيا) كانت تعاني من تفكك وفوضى وشهد وهو في ريعان الشباب الثورة الفرنسية وتأثر بها، فنحت مفهوم “نهاية التاريخ” وكان الهدف الذي يتطلع إليه هو “الدولة العادلة العقلانية تماماً، التي سوف تضمن الحرية الضرورية للتطور التام للقدرات البشرية”[40]. هذا ما أراده هيغل من “نهاية التاريخ” أي قيام الدولة وسيادة العدالة ومفاهيم الحرية والديموقراطية.

أما ماركس، فجاء بعد أحداث مفصلية في أوروبا وفي عصر كانت تسود فيه “الهيغلية” التي كانت تعرف بالمثالية، كما شهد بدايات الثورة الصناعية وانقسام المجتمع إلى طبقتي البورجوازية (الرأسمالية) والبروليتاريا (العمال). وهذان الأمران وضعا ماركس في المقلب الآخر، إذ رفض المثالية وتبنى المادية، فيما ركزّ هجومه على البرجوازية والدولة معاً، إذ رأى أن الدولة مجرد سلطة في يد البرجوازية لاستغلال العمال. وهذا ما دفعه إلى تحريض البروليتاريا على القيام بثورة أممية تسيطر على قوى الإنتاج، ثم تعبر مرحلة الاشتراكية فالمرحلة الشيوعية التي ينتهي التاريخ عندها بانتهاء الدولة، إذ كان يرى “أن الإدارة السياسية للناس يجب أن تتحول إلى التصرف بالأشياء وإلى إدارة عمليات الإنتاج، أي فكرة إلغاء الدولة”[41].

أما فوكوياما، وهو فيلسوف أمريكي معاصر، فولد وترعرع في زمن دولة الليبرالية والديموقراطية والحرب الباردة بين قطبين عالميين وحيدين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) حتى انتهت بفوز الولايات المتحدة وتفكك الاتحاد السوفييتي، فرأى فيه انتصاراً لمفاهيم الليبرالية والديموقراطية وسقوطاً لمفهومي الاشتراكية والشيوعية.

إلّا أن التطورات العلمية التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين وبشكل متسارع ومذهل فاق كل التوقعات، دفعت بفوكوياما إلى تغيير نظرته، وهذا ما لم يتحقق لهيغل وماركس الذين لو تحقق لهما الأمر لتحدثا عن نهاية مختلفة للتاريخ، ولو بقيا على قيد الحياة وشهدا الحربين العالميتين ومقتل الملايين من الأوروبيين خاصة، ورأيا ماذا فعله هتلر وستالين بفكريهما، لربما كان لكل منهما رأي آخر.

وإذا كانت النهايات الثلاث الأولى للتاريخ ارتبطت بأحداث سياسية واجتماعية واقتصادية، فإن النهاية الرابعة التي جاء بها فوكوياما ذهبت إلى مجال آخر له علاقة بالإنسان نفسه، علماً أن صراع المصالح لا يزال قائماً ولا يزال هو نفسه، مع اختلاف جوهري يتمثل بأن هذا الصراع ليس داخل مجتمع واحد بين صاحب مصنع وعامل، بل بين دول كبرى تتصارع على أراضي دول صغيرة لاستغلال شعوبها ومقدراتها في زمن اخترقت فيه الرساميل كل الحدود. ألن يكون لهذا الاستغلال العالمي نهاية للتاريخ؟

والنهاية الرابعة للتاريخ والتي ذهبت إلى التقدم العلمي في مجال الأحياء وما قد يفعله في الجنس البشري وينتجه من نماذج إنسانية مختلفة عن الإنسان الحالي – ربما بهدف تسليط الضوء على الخطر المتأتي من جموح العلم واحتمالية تلاعبه بالجينات البشرية وتغيير طبيعة الإنسان- تدفعنا إلى تساؤلات كثيرة منها: هل يستمر التاريخ إذا لجم التقدم العلمي في مجال الأحياء ولا يصل إلى نهاية؟ أليس التقدم العلمي في كل المجالات حتمية تاريخية؟ ألن يواجه الإنسان إذا ما انتقل إلى ما بعد الإنسانية، إشكاليات تشبه عصره؟ ألن يكون له حينئذ تاريخ ينتهي؟ ومن الآن إلى تلك اللحظة كم نهاية ستكون للتاريخ؟.

[1] جورج فيلهلم فريدريش هيغل (بالألمانية: Georg Wilhelm Friedrich Hegel) (ولد 27 أغسطس 1770 — 14 نوفمبر 1831) فيلسوف ألماني ولد في شتوتغارت، فورتيمبيرغ، في المنطقة الجنوبية الغربيةِ من ألمانيا. يعتبر هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان ويعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر. المصدر: ويكيبديا.

[2] كارل هانريك ماركس، فيلسوف ألماني، واقتصادي، وعالم اجتماع، ومؤرخ، وصحفي واشتراكي ثوري (5 مايو 1818م – 14 مارس 1883م). لعبت أفكاره دورًا هامًّا في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير الحركات الاشتراكية. واعتبر ماركس أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ. نشر العديد من الكتب خلال حياته، أهمُها بيان الحزب الشيوعي (1848)، و رأس المال (1867–1894). المصدر: ويكيدبيا.

[3] يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما (Yoshihiro Francis Fukuyama) ولد 27 أكتوبر 1952، هو عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي، مؤلف، وأستاذ جامعي أميركي. اشتهر بكتابه “نهاية التاريخ وخاتم الشر” الصادر عام 1992، والذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الإجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان.

[4] الثورة الفرنسية (بالفرنسية: Révolution française) كانت فترة مؤثرة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في فرنسا عرفت عدة مراحل استمرت من 1789 حتى 1799، وكانت لها تأثيرات عميقة على أوربا والعالم الغربي عموما، انتهت بسيطرة البورجوازية خلال التحالف مع نابليون وانتهت بتصدير الأزمة من خلال الإستعمار بالتوسع اللاحق للإمبراطورية الفرنسية، انتهت بسيطرة البروجوازية التي كانت متحالفة مع طبقة العمال مع احقاق مجموعة من الحقوق والحريات للطبقة العاملة والمتوسطة للشعب الفرنسي. أسقطت الملكية وأسست الجمهورية وشهدت فترات عنيفة من الاضطراب السياسي، وتوجت أخيرا في دكتاتورية نابليون الذي جاء سريعا بكثير من مبادئها إلى أوروبا الغربية وخارجها. أستوحت الثورة الفرنسية أفكارا ليبرالية وراديكالية، غيرت بشكل عميق مسار التاريخ الحديث، وأطلقت الانحدار العالمي للملكيات المطلق واستبدالها بالجمهوريات. أطلقت الثورة من خلال حروب الثورة الفرنسية صراعات عالمية مسلحة أمتدت من البحر الكاريبي إلى الشرق الأوسط. المؤرخين على نطاق واسع يعتبرون الثورة الفرنسية واحدة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية. المصدر: ويكيبيديا.

[5] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، الكويت، المركز المصري العربي، 2000 ص 48

[6] – د. ريازانوف، محاضرات في تاريخ الماركسية، نيسان 1923، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ص 15

[7] – د. ريازانوف، محاضرات في تاريخ الماركسية، ص 19

[8] – المصدر نفسه، ص 19

[9]- هيغل، أصول فلسفة الحق، الجزء الأول، ترجمة امام عبد الفتاح امام، العدد الخامس من المكتبة الهيغلية، دار التنوير، بيروت، 1983 ص 498

[10] – د. ريازانوف، محاضرات في تاريخ الماركسية، ص 20

[11] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة القانون والسياسة عند هيغل، دار الشروق، بيروت، 1996، ص 48

[12] – امام عبد الفتاح امام، دراسات في الفلسفة السياسية عند هيغل، المجلد الأول، ص 892

[13] – ماركس، العائلة المقدسة، من موقع: http://www.marxists.org/arabic/archive/marx/index.htm

[14] – هيغل، أصول فلسفة الحق، الجزء الأول، ص 497

[15] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة القانون والسياسة عند هيغل، ص 48

[16] – هيغل، موسوعة العلوم الفلسفية، المجلد الثاني، من المكتبة الهيغلية، ترجمة امام عبد الفتاح امام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1997، ص 383

[17] – هيغل، موسوعة العلوم الفلسفية، المجلد الثاني، من المكتبة الهيغلية، ترجمة امام عبد الفتاح امام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1997، ص 213

[18] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ص 166

[19] فريدريك إنغلز (28 نوفمبر 1920 في بارمن، بروسيا (حاليًا فوبرتال، ألمانيا) – 5-8-1895) هو فيلسوف ورجل صناعة ألماني يُلقّب بأبو النظرية الماركسية إلى جانب كارل ماركس. في عام 1845، نشر كتابه حالة الطبقة العاملة في إنجلترا اعتمادا على ملاحظاته وأبحاثه الشخصية. في عام 1848، أصدر مع ماركس، بيانهما المشهور والمعروف ببيان الحزب الشيوعي، والذي يسمى اختصارًا البيان الشيوعي. فيما بعد، ساعد كارل ماركس ماديا من أجل أن يكتب هذا الأخير كتابه الرأسمال. بعد وفاة ماركس، نشر إنغلز الجزئين الثاني والثالث من هذا الكتاب. إضافة إلى ذلك، نظم انغلز مختلف تخمينات كارل ماركس، مما أعطى الجزء الرابع من كتاب الرأسمال. المصدر: ويكيبيديا.

[20] – ارنست ماندل، مدخل إلى الاشتراكية العلمية، 1977 ترجمة غسان ماجد وكميل داغر 1980ص 84

[21] – ارنست ماندل، مدخل إلى الاشتراكية العلمية، ص 84

[22] – ارنست ماندل، مدخل إلى الاشتراكية العلمية، ص 88-89

[23] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ص 234

[24] – فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، الطبعة الأولى، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1993، ص 10

[25] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ص 235

[26] – فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص 14

[27] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ص 235

[28] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ص 235

[29] – فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص 15

[30] – أنغلز، ضد دوهرنج – ثورة السيد أوجين دورنغ في العلوم، دار التقدم موسكو، 1984، ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن ص 105

[31] – ماركس – أنغلز، البيان الشيوعي، تاريخ وضعه: أواخر سنة 1847، تاريخ النشر: شباط (فبراير) 1848. المصدر العربي: دراسة البيان الشيوعي، ط1، 1987، ترجمة د. عصام أمين، نسخة pdf.

[32] – فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص 24

[33] صامويل فيليبس هنتنجتون (18 أبريل 1927 – 24 ديسمبر 2008) (إنجليزية:Samuel Phillips Huntington) كان عالماً سياسياً أميركياً، بروفسور في جامعة هارفارد لـ 58 عاماً، ومفكر محافظ. عمل في عدة مجالات فرعية منبثقة من العلوم السياسية والأعمال، تصفه جامعة هارفارد بمعلم جيل من العلماء في مجالات متباينة على نطاق واسع، وأحد أكثر علماء السياسة تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين. هو صاحب أطروحة “صدام الحضارات” The clash of civilizations التي نشرها صامويل هنتنغتون S.Huntington فى مجلة (شؤون خارجية) Foreign Affairs عام 1993 وطورها في كتاب يحمل الاسم نفسه فيما بعد.

[34] Samuel Huntington: “The Clash of Civilization”, Foreign Affairs. U.S.A., Summer 1993, p. 22-49

[35] فوكوياما فرانسيس، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص 9، ترجمة حسين أحمد أمين، الطبعة الأولى، 1193، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة.

[36] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص 17، ترجمة حسين أحمد أمين، الطبعة الأولى، 1193، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة.

[37] فرانسيس فوكوياما، “نهاية الإنسان أو مستقبلنا ما بعد الإنساني” (نتائج الثورة البيوتكنولوجية)، عرض د. يوسف محمود، شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، المجلد العاشر، العدد الثالث، 2005، ص 149.

[38] “نهاية الإنسان أو مستقبلنا ما بعد الإنساني” (نتائج الثورة البيوتكنولوجية)، فرانسيس فوكوياما، عرض د. يوسف محمود، شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، المجلد العاشر، العدد الثالث، 2005، ص 149.

[39] – فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، الطبعة الأولى، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1993، ص 10

[40] – مخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، ص 235

[41] – أنغلز، ضد دوهرنج – ثورة السيد أوجين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *