بقلم: محمد الگحص
لنبدأ بالاعتراض الذي لا مناص منه، لماذا التربية الشعبية؟ لماذا تعميم المعرفة؟
وتيسير الولوج الدائم والمتجدد إليها للجميع؟
لماذا العمل على توسيع سلطة العقل ليصير شعبيا؟
أليس هذا في نهاية المطاف مجرد ترف فكري؟
مجرد نزوة مثقفين حالمين يسقطون مسارهم الشخصي وشغفهم النخبوي بالعلم والمعرفة والثقافة على عالم لا يطلب منهم شيئا، ويعيش دونما حاجة إلى تعقيداتهم “المتعالية والمملة”؟؟
أو ربما “أسوء” و”أخطر”، أليس دعاة إشاعة المعرفة والفكر والعقل والثقافة، هم في الحقيقة “إيديولوجيون” متخفون يسعون إلى هيمنتهم الثقافية لتيسير قدوم مسائهم الكبير، وثورتهم الناعمة للاستيلاء على السلطة؟
من منا غامر من موقع ما بالقول أو بالفعل وأنتصر لفكرة تعميم المعرفة وإشاعة العقل ولم يحارب بأشكال متعددة من التشكيك والمواجهة تنهل كلها من هذين الصنفين من الاعتراضات؟
طبعا لا داعي للإطالة في الرد المدقق على هذا التوجس يكفي أن نطرح بدورنا أسئلة:
من يخاف من المعرفة؟
من يخشى سيادة العقل؟
من يخرج مسدسه كلما سمع كلمة ثقافة؟
من قد يجازف بالتعايش الحذر مع المعرفة والفكر والثقافة وأهلها… شريطة أن يبقوا في وضع النخبة (القلة) معزولين في جامعاتهم أو مراكز بحثهم، أو مكتباتهم، أو بيوتهم وسط كتبهم وأوراقهم، أو حتى نواديهم الصغيرة… وليتركوا شأن العامة لمن يعرفون تدبير العامة؟ أسياد الكون الليبيرالي المتوحش المعولم تسكنه البضاعة والخواء.
يعلمنا التاريخ أن سيادة هذا المنطق رافقت سيادة الظلامية والتفكير السحري، والخرافة والدجل ونزعة الموت وكل أشكال الشمولية التي أوقعت بالبشرية كل أنواع الاستبداد والتدمير والدمار والعنف لأنها بالتحديد رأت في إشاعة الجهل أسلوبا حاسما في إحكام القبضة على العقول كمدخل للاستفراد بالباقي… أي كل شيء: حياة الناس ومصائرهم، وأجسادهم وأحلامهم الصغيرة والكبيرة.
كم من الأمم والحضارات دفعت الثمن باهظا مأساويا؟
وهل حقا حين نقرر أن نرى ما نراه هل حقا عالم اليوم في منأى عن مثل هذه المأساة؟ إن دعاة المعرفة الشعبية وإشاعة العقل وسيادته، يخشون ألا نكون فقط في غير منأى عن تجارب التاريخ التراجيدية بل موقنون أن الإنسانية مهددة باندحار فظيع إد تحت بريق “العولمة ” التي هي “الرداء المزين” لليبرالية الفظة واللاإنسانية تزحف ظلامية الاستلاب و تعميم الجهل و إنتاج العنف و سيادة الخوف في الحاضر و من المستقبل، لتسويغ فكرة واحدة و وحيدة :لا قيمة تعلو فوق قيمة المال، و لا سلطة إلا له، ولا مقياس للحياة الا مقياسه.
إنه الأفق الأوحد، الذي لا يمكن تجاوزه ،إنه المعنى الرهيب الوحيد، الذي تقترحه، بل تفرضه الإيديولوجية الجديدة القديمة على البشرية. والمعرفة الشعبية عدوها لأنها
شرط كل مقاومة ممكنة.
لنتأمل بسرعة بعضا مما يحاصرنا:
1. انهيار الديمقراطية في أزمات متتالية لأنها أصبحت عاجزة عن احتواء تحولات تتجاوزها، ولا تتحكم في قرارات وظواهر تنتجها إيديولوجية ومراكز قرار مالية، مصالحية تخترق العالم ولا تخضع لأية سيادة.
2 انهيار كل السلط المهيكلة والمؤطرة للعيش الجماعي: سلطة الدولة، سلطة الأسرة، سلطة المدرسة سلطة المثقف.
3 انهيار الوساطات التقليدية، الأحزاب، النقابات الجمعيات.
.4. تبضيع وتشيء كل ما حصنته طويلا تراكمات الحضارة الإنسانية: من تعليم، وثقافة، وخدمات عمومية، إلخ.
السوق يجهز على كل القيم الإنسانية لكي تسود قيمة واحدة، لا يسندها لا علم ولا معرفة ولا ثقافة ولا إنسانية ولا تضامن ولا تطوع ولا استحقاق، ولا تفرد. ولا إبداع ولا التزام. ولا مصلحة جماعية. بل تحددها البورصة. لأن الحياة تصبح بورصة وكل من لا أسهم له في هذه البورصة (بيعا وشراء وربحا أنيا وماديا صرفا) فلا حياة له.
5. الإجهاز الممتهج على الدولة الوطنية وسيادتها لأنها عرقلة ومتراس للمقاومة. لذلك وجب تفتيتها وضرب وحدتها ورهن ،إقتصادها وتتفيه ونسف كل أشكال سيادتها سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية أو هوياتية.
هذه فقط أمثلة.
لماذا التربية الشعبية وتعميم المعرفة والعقل؟
لنتتبع خيوط كل هذه الأزمات والانكسارات المحبطة، سنرى أنها نمت وتغدت على أنقاض العقل وتغدي الجهل وانحسار المعرفة وتعمل على تسطيح هذه المعرفة وتنميطها.
ليس كأداة للتحرر والمقاومة، بل كبضاعة بدون معنى ولا عمق، تعطي للمستهلك “وهم الاطلاع” بينما هي في الأخير منتجات تجارية محضة / أي نفي المعرفة/ تشيع أبشع أنواع الجهل أي الجهل المركب الفارغ المستسهل والمتصنع أحيانا كثيرة. ولعل أخطر أساليب محو المعرفة هو ما يحدث من تنميطها في شكل هذا الخواء العارم، كبضاعة رثة تدر الربح إذ لها ثمنها… ولكن لا قيمة لها.
إننا أمام تمظهرات عميقة لأزمة حضارية، تتطلب استنهاض روافع وقيم وأسس مشروع حضاري وإننا لا نرى مقاومة وبناء مضادا للظلامية الجديدة وكل رديفاتها، إلا بإشاعة المعرفة، وجعل العقل شعبيا وابداع كل الصيغ التي تضمن ذلك. والتربية الشعبية إحداها.
• تحرير الأنسان الفرد وتمكينه من استقلاليته، ووعيه بتفرده، ورفع ذوقه ووعيه، وامتلاكه لاختياره وممارسته لحريته، وإدراكه لمسؤوليته، وتحديده لمكانه داخل المجتمع وتجاه الكون وتحصينه من أشكال الاستيلاب، أو الخوف من الأخر ومن الحياة و النزعة نحو العنف والتعصب.
• تسليح هذا الفرد بالقيم التي تشعره بالانتماء للوطن، والإنسانية، كل هذا يمر عبر تمكينه من المعرفة ومن إعمال العقل.
• نجاح الفرد في حياته الشخصية روحية ثقافية اجتماعية، مهنية رهين بامتلاك المعرفة.
•بناء الديمقراطية وإعادة جاذبيتها وترسيخ قيمها وتقوية مؤسساتها، يمر عبر تمكين المواطن من المعرفة التي تبني اختياره الواعي والحر، وتجبر من يتقدم أمامه على تقديم برامج وأعمال تحترم هذا الوعي وهذا الاختيار. وبالتالي ترجح كفة العقل والمعرفة على الشعبوية والتهريج والتهييج وما شابهه حين يتعلق الأمر باستغلال الجهل ومخاطبة المشاعر البدائية عوض العقل.
• إمكانية خلق فضاء عمومي للاختلاف والحوار والتنافس، سليم وراقي يفترض سيادة رصيد معرفي متقاسم وواسع الانتشار، يكون أداة للبناء الجماعي والعيش المشترك والمصلحة العامة، وفي نفس الوقت حكما قيميا ومعرفيا بين الغث والسمين.
• إعادة الاعتبار والثقة للمؤسسات والسلط الشرعية والمشروعة سياسية وأسرية /مجتمعية، وأكاديمية/ مدرسية وثقافية/ فكرية، ووسائطية، رهين بإشاعة المعرفة وتثمين العقل.
• محاربة الكراهية والحقد والعنف بكل أشكاله، والمواجهة الجدرية للإرهاب وإيديولوجياته ومنابعه. هي بالأساس معركة تربية، وثقافة، وتنوير دائمة، شاملة ملزمة، وبالتالي فهي معركة إشاعة المعرفة، وسيادة العقل، ونشر وتكريس الثقافة قيمة حياتية مطلقة. حقا للمواطن /الفرد وواجبا مجتمعيا ،واجبا للدولة ومؤسساتها للمثقفين والمربيين والأحزاب والجمعيات ووسائل الإعلام وكل من هو في حكم من قد نسميهم “معلمو الحياة”.
•الاحتفاء بالحياة، الانتصار للخير والجمال والحقيقة الاحترام الواجب لكل إنسان هو أن تكون له حياة خاصة يتذوق فيها الفنون ويتغدى من ينابيع الثقافة، ويحلم ويجرب ويبدع ويساهم، ويفكر، ويقرأ، ويكتشف، ويعجب ويتفق أو يعارض بمحض إرادته. يختار! يعيش وجوده المتفرد في سكينة واطمئنان ويواجه صعوبات الحياة بهمة وعقلانية، ولم لا حكمة.
فرد/مواطن يقيس نجاح حياته ومقدار سعادته وقيمته بمقياس المعرفة والعلم والثقافة وما تتيحه له من سعادة شخصية واندماج جماعي. لا علاقة لها بمقياس المال أو ما يسمى الجاه وغيره من بعض أوجه الكوميديا الاجتماعية التافهة. وهنا أيضا الأمر متوقف على إشاعة المعرفة. أما النمو الاقتصادي وازدهار الإبداع وإنتاج المعرفة نفسها فهذا تحصيل حاصل.
يمكننا أن نسهب في كل مكامن أزماتنا وما يهددنا ، وسنجد كما أردنا التدليل عليه في أمثلة وبعجالة، سنجد أنه بدون المعرفة المعممة لا بناء لمشروع حضاري جديد مقاوم ومضاد لما الإنسانية أيلة إليه من اندحار وخواء، وعنف وإرهاب وتسلط كوني رهيب، وتتفيه للقيم الإنسانية. طبعا بالات ذكية وثورة” تكنولوجية وما إلى ذلك من منتوجات تجارية خلابة ومنومة، ولكنها في النهاية أدوات دمار. إن بقيت لوحدها توهم بأن للخواء معنى لمجرد أنه تكنولوجيا جديدة إلى أخر الأسطورة.
أما الدمار فيبقى دمارا.
والمعرفة سبيل إعادة البناء ،إنها الثورة الممكنة الضرورية والملزمة… مدخل الأفق الوحيد لمشروع حضاري جديد وطني وإنساني… معبئ.
عن جريدة “الأحداث المغربية”