بلاغة المدرسة وبلاغة الإعلام

محمد بوبكري

يقول « لا يكوف وجونسون’’ في كتابهما الشهير « الاستعارات التي نحيابها’’: إننا نمارس حياتنا بالاستعارات، ويقول « غوستاف لوبون’’ في كتابه « سيكولوجيا الجماهير’’: « إن الجماهير تتحرك بالصور المجازية، لا بالأقوال المنطقية’’. وهكذا، يعج تاريخ الفكر السياسي بخطابات توظف الاستعارة بهدف تبرير سلطة الزعيم، فهو مرة الأب، وهو مرات أخرى الراعي…. وبتحليل الأبعاد الدلالية لهذه الاستعارات، يتضح جليا أنها تقوم بوظيفة تمويهية… وفي مقابل هذه الخطابات، تقوم القوى المعارضة لسلطة الزعيم، والمتنافسة فيما بينها في آن، بإنتاج استعارات للتأثير في متخيل الناس…، فيقدم ممثلوها أنفسهم باعتبارهم
ضمير المجتمع ونبراسه وأصحاب مشروع تنميته ودمقرطته… ولتقديس ذواتهم، يصف شيوخ التيار السلفي المتشدد أنفسهم بأنهم نور الأمة الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، وصوتها الذي ينذر بالخطر القادم…
تعاني نظرتنا إلى اللغة من ضعف كبير؛ فغالبا ما لا نفهم وظيفتها، ولا وظيفة استعاراتها، ولا طبيعتها، ولا كيفية اشتغالها، وحدود هذا الاشتغال، ولا مدى تأثيرها في الإنسان من خلال صياغتها لفكره… وهذا ما أصاب معرفتنا اللغوية بالضعف، وجعلنا لا ننظر إلى وظيفة اللغة بكونها مؤسسة اجتماعية ننفتح بواسطتها على العالم، ونستحضره عبرها في ذهننا. ونتيجة ذلك، بقي مفهوم الكفاية اللغوية عندنا قائما على كم المعلومات والعبارات المسكوكة والأشعار المحفوظة…، دون أي اهتمام بمعرفة كيفية اشتغالها وتأثيرها في إدراكنا وخطابنا وشخصيتنا وحاضرنا ومستقبلنا…
ولتوضيح الدور الخطير الذي تلعبه اللغة في تشكيل تصوراتنا للأشخاص، والأشياء والأحداث والأفكار، نستدل بفقرة واضحة الدلالة وردت في كتاب سلامة موسى الذي يحمل عنوان: « البلاغة العصرية واللغة العربية’’، يقول فيها: « لا أقرأ جريدة الصباح، حتى أجد جريمة، أو جريمتين مرجعها إلى اللغة… جرائم الدفاع عن العرض التي تذكر لنا صحفنا كل يوم جريمة أو اثنتين منها، هي جرائم لغوية لا أكثر، إما لوجود كلمة لا يصح أن توجد، وإما بتحميلها معنى كان يجب ألا تحمله ».
تعني هذه الفقرة أن دوافع الجريمة ليست ناجمة فقط عن البيئة الاجتماعية والأوضاع المادية والتخلف الحضاري…، وإنما هي ناتجة أساسا عن اللغة والكلمة وحياتها الثقافية والتاريخية، واستعاراتها التي يرى عبرها المجرم العالم في صورته الاستعارية، حيث يفهم هذا الأخير العالم فهما استعاريا لا حقيقيا. وهكذا، فعندما تستعير الخطابات المتطرفة والمتشددة من معجم التكفير والرمي بالردة والفسق والفجور معاني ودلالات تنتمي إلى حقل آخر غير الحقل اللغوي الحقيقي، يبدأ المتشربون لهذه الخطابات ينظرون بمنظار هذا المعجم المستعار. وبغير وعي منهم، يطلقون كلماته وألفاظه وأسمائه على غير مسمياتها.
وتكمن خطورة الجهل بالوظيفة الاجتماعية والفكرية للاستعارة في تحويلها للإنسان ذاتا وعقلا إلى لعبة في يد المؤسسات التي تنتج الخطابات وتروجها، حيث تصوغ رؤيته إلى العالم بواسطة لغتها واستعاراتها، فينظر إليه بمنظارها… إنها تلعب باللغة عبر الاستعارة، فَتُلْبِسُ معجم الجمال للأشياء القبيحة، فتصبح جميلة في نظر الإنسان. كما أنها توظف مفردات القبح لتسقطها على ما هو جميل، فيغدو قبيحا. إضافة إلى ذلك، إنها تستعير كلمات من معجم الزيف والكذب والخداع…، فَتُصَيِّرُها حقيقة…
وهكذا، تصبح الحقيقة هي ما تقوله استعارات هذه الخطابات، وما يراه الإنسان عبرها. ولقد صدق نيتشه عندما وصف الحقيقة بكونها « سيلا من الاستعارات والمجازات المرسلة’’. فحسب هذا الفيلسوف، ليست كل مدركاتنا التي نراها حقائق، سوى فيض من الاستعارات… وإن شئنا أن نطبق هذه المقولة على مشهدنا الإعلامي الحالي، فسنقول إن حقائق مدركاتنا هي سيل جارف من الاستعارات والمجازات المرئية المرسلة من قِبل مختلف الأجهزة الإعلامية الحديثة (ع. أ. الديري).
بالإضافة إلى ذلك، إذا كانت صور التلفزيون واليوتوب تخاطب اللاشعور، فالمشرفين على هاتين المؤسستين محليا وكونيا يلجأون إلى التحايل والمكر المفضوح، حيث لا يكفون عن قصفنا يوميا بصور بعض الأشخاص من أجل ترسيخهم في لا وعينا ومتخيلنا بهدف خلق نخبة سياسية « جديدة ». ويشكل هذا العمل أكبر ضرب من ضروب التزييف، كما أنه لن يجلب للوطن ومستقبله سوى الإحباط، ولن يقوده سوى إلى الهاوية… إن النخب لا تخلق بالدعاية الكاذبة، وإنما بالكد والجهد والمثابرة والإبداع وإنتاج الأفكار وتطوير المشاريع وإنجازها…
وفوق ذلك، لا توجد علاقة مباشرة حاليا بين التلفزيون وبين الثقافة. فهذا الجهاز الذي يمكن أن يؤدي دورا ثقافيا بارزا، يقف عاجزا عن أداء أي دور ثقافي ملموس، وذلك على الرغم من أن شبابنا اليوم في حالة تدهور ثقافي. وحينما يمعن الإنسان النظر فيما يقدم بكونه برامج ثقافية تلفزيونية، تتولد لديه قناعة راسخة بأن التلفزيون يحارب الثقافة الرفيعة. فما يقال فيه هو عبارة عن برامج ثقافية هزيلة، ولا يلبي حاجيات الإنسان الثقافية..
إن من واجب التلفزيون متابعة ما يحدث في مجتمعنا وفي العالم كله من أحداث وتحولات وإبداعات ثقافية. فظهور كتاب هو حدث ثقافي، وتنظيم ندوة علمية حدث ثقافي، وإقامة معرض تشكيلي حدث ثقافي،وتقديم عرض مسرحي حدث ثقافي… فهل يفعل التلفزيون شيئا إزاء كل ذلك؟ وأين الثقافة في برامج التلفزيون؟ هل الثقافة هي أن نكثر من المسلسلات التركية والمكسيكية الرديئة في غالبيتها؟ هل تتمثل الثقافة في الأغاني التافهة كلمات ولحنا، والرقصات المثيرة المعبرة عن بعض أعضاء الجسم البشري..
لا تصدر الثقافة عن هز البطون والأجساد…، لأنها ما يصدر عن وجدان نبيل، وينتجه عقل يحترم خصائص التفكير البشري والعلم والحضارة…
وهذا ما يفرض علينا طرح السؤال التالي: هل تدرس بلاغتنا المدرسية الصور الإعلامية، وصور التلفزيون والسينما والملصقات والجرائد والمجلات بوصفها استعارات ذات أثر بليغ في تشكيل فكر الإنسان وتمثلاته ووجدانه…؟
وبالرغم من الجهود المحدودة المبذولة في هذا المجال، لا تزال المفاهيم النقدية لبلاغتنا المدرسية غير منفتحة على ثقافة الإنسان المعاصر، لأنها تقرأ النصوص والصور بطريقة آلية لا تمكن من إدراك معانيها، وكشف مواربتها… وهذا ما يفسر عدم توظيفها لهذه المفاهيم في قراءة لغة التخاطب اليومي من أجل تطويره عبر نقده. كما أنها لم تؤهل المتعلم بعد لقراءة ما يتلقاه يوميا من سيل الخطابات الإعلانية والإعلامية السياسية والاجتماعية، وذلك لأن هذه المفاهيم لم تنفتح بعد على مستجدات البحوث البلاغية والنقدية…، ولا على نصوص متباينة الأصول…

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *