بوبكري يكتب: الحراك الشعبي الجزائري يريد إحداث قطيعة جذرية مع نظام العسكر

محمد بوبكري

يكاد يجمع السياسيون الجزائريون على أن كل شيء في الجزائر تحت سيطرة العسكر، وهذا ما أدى إلى عدم وجود فضاء عام في الجزائر، وأي فضاء سياسي سليم، وغياب أي عمل سياسي فعلي، لأن الفضاء السياسي محتكر من قبل المؤسسة العسكرية، بل إنها قد قامت هي ودوائرها بتمييعه. كما لا يوجد فضاء سياسي داخل النظام العسكري، ولا داخل أذرعه السياسية والحزبية والإعلامية التابعة له، ما يعني أن هذا النظام لم ينتج حياة سياسية حتى داخله، ولم ينتج نخبا سياسية، حيث لا توكد في جزائر اليوم وجوه سياسية لامعة، ولا أقلام لها إشعاع واسع. وهذا ما يشكل ثورة مضادة لما عرفته الحركة الوطنية في أيام الاستعمار الفرنسي التي تميز بتعدديتها الفكرية. وإذا كان النظام العسكري لا يمتلك نخبة ولا مؤسسات، فإن ما يمتلكه هو مجرد تسمية Nomenclature تقوم بتسييرها دوائر بيروقراطية وإدارة المال العام ووجوه توجد هنا وهناك في الساحة الجزائرية. وهذا ما دفع بعض الخبراء والسياسيين الجزائريين إلى استنتاج مفاده أن النظام العسكري الجزائري هو في عمقه ليس نظاما سياسيا بالمعنى السليم، وإنما هو “اللانظام”.

هكذا، تتميز هذه المرحلة العصيبة التي تمر منها الجزائر بغياب الفضاء العام والفضاء السياسي، وانعدام الحريات بشتى أنواعها، ما نتج عنه غياب “السياسة”، حيث تسود “اللاسياسة”، ما يعني أن الجزائر ما تزال تعيش في مرحلة “ما قبل الدولة” و”ما قبل السياسة”، حيث لا وجود للقانون، ولا للمؤسسات. وهذا ينطبق على تاريخ الجزائر منذ بداية ما ُسمي بـ”الاستقلال” إلى اليوم، حيث صار النظام العسكري مترهلا يعيش حالة تفسخ décrépitude، لأنه لا يحترم الشعب، ولا المؤسسات، ولا القانون، ولا شكلياته… وللتدليل على ذلك، فقد عاد الجنرال خالد نزار إلى الجزائر بقرار من الجنرال “سعيد شنقريحة” الذي قرر بمفرده، باسم المؤسسة العسكرية، إغلاق ملفاته، وإلغاء الأحكام الصادرة في حقه، حيث تحول الجنرال “سعيد شنقريحة” إلى قضاء فوق القضاء الجزائري نفسه، ما يفيد أن هناك تسيير سياسي للقضاء. ويعني ذلك أن الحياة في الجزائر تطغى عليها حالة “اللادولة”. وهذا ما يدل على أن العسكر أصبحوا خطرا على البلاد وعلى أنفسهم في آن واحد. فالمؤسسة العسكرية تتخذ كل القرارات في دوائر مغلقة conclaves، وذلك وفقا لمصالحها، وما يتطلبه استمرارها في السلطة. هكذا، فالجزائر والشعب الجزائري ليسا أولويتين عند العسكر، ما يفسر تصنيف الجزائر في مؤخرة الترتيب العالمي في كل المجالات، حيث لا يخجل العسكر من الوصول بهذا البلد إلى هذه الوضعية المأساوية رغم امتلاكه لخيرات كثيرة.

لقد طغى الفساد في كل مجالات الحياة الجزائرية، حيث تؤكد قصة الصفائح الذهبية التي بيعت في السوق السوداء، والتي أثارها رئيس الحكومة السابق المعتقل “أويحيىء” حالة “اللادولة” في الجزائر. وتكشف هذه القضية الصراع القائم اليوم بين الجنرالات، ما يؤكد ترهل النظام العسكري وفساده. إضافة إلى ذلك، تؤكد قضية العثور على ما يفوق 700 كيلوغرام من “الكوكايين” حالة “اللادولة” وتفسخ النظام الجزائري، حيث يلمح بعض المعارضين الجزائريين إلى أن بعض الجنرالات متورطون فيها، لأن القيمة المالية لهذه الصفقة ضخمة جدا، كما أن عملية تهريب الكوكايين هذه معقدة، وتقتضي تواطؤ جيش من البشر وتسهيلات وغض الطرف من طرف جهاز الجمارك ومختلف الأجهزة الأمنية… حيث لا يمكن أن يقوم بتنفيذ هذه العملية أشخاص محدودون ، مهما كانت كفاءاتهم… ويدل كل هذا وغيره على أن الفساد بنيوي في النظام العسكري الجزائري، بل إنه ُمكون جيني لهذا النظام. وما يتجاهله الجنرالات هو أن الشعب الجزائري المنخرط اليوم في حراك ضد نظامهم، قد أصبح يعي تاريخ فساد الجيش وغاياته ومناوراته، كما أنه صار يدرك تا ريخ تآمر المؤسسة العسكرية على الشعب والوطن الجزائريين. أضف إلى ذلك أن مناضلي الحراك الشعبي قد باتوا يعون أن الدولة في الجزائر هي دولة السلب والنهب والقمع والقتل، وليست دولة الإصلاح والبناء والتنمية، حيث يدرك الجزائريون أن كل منظومات دولة الجنرالات قد فشلت في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولم يجد النظام العسكري من مخرج له سوى قيامه بإرشاء التنظيمات الضعيفة لما يسمى تجاوزا بـ المجتمع المدني” بهدف استتباعها له.

وإذا كانت الحركة الوطنية الجزائرية قد تمكنت من إنتاج فكر وأطر وتعددية في ظل النظام الاستعماري، فإن العسكر لم ينتجوا أي شيء، بل إنهم قد عملوا على إجهاض الفكر الوطني الذي أبدع الثورة الجزائرية، كما أنهم قاموا بإجهاض كل منظومة مجتمعية يمكن أن تبزغ بشكل طبيعي من رحم المجتمع الجزائري.

تبعا لذلك، لقد أفقروا الشعب وأضلوه السبيل، وجعلوه يركز اهتمامه فقط على ما يمكن أن يسد به رمقه. وبذلك، تمكنت المؤسسة العسكرية من إعدام الشعب من أجل بقائها، حيث وصلت الجزائر إلى مرحلة يبدو فيها أن هناك نظام عسكري لا يمنح للشعب حقه في الوجود عبر المشاركة الكاملة في تدبير شؤونه. ولذلك كان الحراك الشعب هو ردة فعل الشعب الجزائري. ونظرا لهلع العسكر من الحراك، فإن الجنرالات يبذلون كل ما في وسعهم من أجل احتواء هذا الحراك، أو إفراغه من أي معنى او مضمون. لذلك نجد قيادات الحراك متمسكة بالتغيير الجذري للنظام العسكري، حيث إنها تفكر في بناء دولة الحريات والقانون والمؤسسات، وتركت للنظام العسكري التفكير في عالم الأشياء والأشخاص، لأن عقله لا يفكر إلا في السلطة ومغانمها، وذلك على عكس عقل الحراك.

فما يهم الحراك اليوم هو تغيير موازين القوى لصالح الشعب الجزائري حتى يتمكن من إحداث قطيعة على مستوى الحكم في كيانه وآلياته وثقافته، وذلك حتى تكون السيادة والشرعية للشعب الجزائري. إضافة إلى ذلك، يروم الحراك إحداث قطيعة على مستوى ممارسة السلطة، حيث يعمل على توفير الشروط لبروز نخب جديدة ومؤسسات جديدة وتنظيمات سياسية ومدنية جديدة. ولترسيخ هذه القطائع مع نظام العسكر المتفسخ، ينبغي إحداث قطيعة فكرية تحدث على مستوى البنية الثقافية للنظام والمجتمع معا. لذلك، يجب أن يكون التغيير جذريا حتى لا يعود نظام العسكر في حلة أخرى.