محمد بوبكري
لا أسعى من وراء هذه الورقة القصيرة إلى أن أكون طرفا في الشأن الجزائري، بل إن محبتي للشعب الجزائري هي التي ولدت لدي رغبة في المساهمة في النقاش مع إخواني وأخواتي في الجزائر، الذين يتطلعون إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
تروج المخابرات الجزائرية أن هناك حوارا بين السلطة والحراك الشعبي، لكن هذا مجرد إشاعة هدفها المس بمصداقية الوجوه المناضلة المخلصة المشاركة في هذا الحراك، وكل ما هناك هو مجرد استقبالات لممثلي بعض الدكاكين السياسية التي لا تمثل الحراك، أجراها “عبد المجيد تبون” بأمر من الجنرالات بغية ذر الرماد في العيون. فهم يريدون أن يبدوا أمام الرأي العام الدولي منفتحين على “الحوار”. وإذا تم هذا الحوار معهم، فهذا يعني أن لهم شرعية، ما يتناقض مع شعارات الشارع الجزائري التي تدعو إلى القطيعة معهم. لكن اللقاءات التي تمت بين “تبون” وزعامات بعض أحزاب الجنرالات، تدل على أن الأمر يتعلق بثورة مضادة خططت لها المخابرات الجزائرية، وتمولها مجموعة من رجال الأعمال الموالين للعسكر، لأنهم يستفيدون من الصفقات التي ينظمها الجنرالات ويقتسمون أرباحها الطائلة معهم، ما يعني أنهم يساندون الجنرالات لأن لهم مصالح مشتركة معهم.
وللإشارة، فزعامات الأحزاب الكارتونية التي استقبلها “تبون” لا تمثل الحراك الشعبي، وإنما تمثل تنظيمات هي عبارة عن هياكل فارغة انقرضت من المجتمع، ولم يعد لها أي تواجد دال فيه، بل إنها في أغلبها من صنع المخابرات الجزائرية، ما حولها إلى أزلام للجنرالات. كما أن هذه الزعامات تتوصل بمرتبات من السلطة وعلاوات أخرى، ما حولها إلى جزء من السلطة، حيث لا استقلال لها عنها، وهي تسعى إلى الحصول على مواقع في المؤسسات التي تصنعها السلطة، وهذا ما يشكل مظهرا من مظاهر فساد نظام العسكر الذي ينهض على الريع والفساد.
لذلك، فاستقبال “تبون” لزعامات هذه الأحزاب لا يعد حوارا بالمعنى السليم للكلمة، لأنه يدل على أن السلطة تحاور نفسها، ما يعني أن مفهوم “الحوار” لا ينطبق على هذه الاستقبالات، لأنها مجرد مسرحية أو لقاءات مجاملة. أضف إلى ذلك أن هذه الأحزاب لا تشارك في الحراك، لأن السلطة لم ترخص لها بذلك، وأرادت أن تنصبها زعيمة للحراك، ما يشكل تزويرا وتحايلا على إرادة الشعب الجزائري، كما اعتاد الجنرالات على ذلك.
ويبدو أيضا أن هذه اللقاءات هي عبارة عن مشاركة في قهر الشعب الجزائري، ومحاولة يائسة لإطالة عمر الاستبداد العسكري، وسعيا لتزكية ومباركة استمرار استعمار العسكر للجزائر والجزائريين. ومن حسن الحظ أن قوة الحراك واستمراره جعلاه قادرا على إسقاط الثورة المضادة عبر فضحها والتنديد بإرهابها، وبمؤامراتها، وتحذير الجزائريين والجزائريات منها.
بالإضافة إلى ذلك، فزعامات الأحزاب التي شاركت في هذه اللقاءات لا تؤمن بالديمقراطية، لأن الديمقراطي لا يساير العسكر، بل يحترم اختيار الشعب… فالسمك يسبح في البحر، ونظام العسكر قائم على القهر، ما يعني أنه قائم على باطل. لذلك لا يمكن أن يكون الإنسان الجزائري ديمقراطيا، إذا كان يساير الجنرالات، ويسير وراء مؤامرات “خالد نزار” و” توفيق مدين”… فالعسكر لا ينظرون إلى الجزائريين بكونهم شعبا ناضجا، وإنما يعتبرونهم مجرد “غاشي”، أي جمهور غفل، لا يفكر. وقد فند الحراك الشعبي هذه الفكرة المشوهة التي كونها الجنرالات عن الشعب الجزائري، الذي عبر حراكه عن المستوى الرفيع لوعيه بأوضاعه وتاريخه، وما يريد بناءه، من خلال ما عبرت عنه شعاراته السياسية العميقة التي أرعبت العسكر…
لا يمكن للإنسان أن يكون ضد الحوار، بل ينبغي أن تكون له شروط وخطة واستراتيجية قبل الدخول فيه. ويبدو لي أن المناضلين الأحرار لا يمكن أن ينخرطوا في حوار مع الجنرالات من تلقاء أنفسهم، بل إنهم يمتلكون كفاءات عالية تجعلهم يحددون شروط ذلك لكيلا يدخلوا في متاهات قد تنعكس سلبا على الحراك، وتجعل الجزائريين يفقدون الثقة فيه. لذلك، فأنا أستبعد أن تقبل شخصيات مناضلة، مثل: “كريم طابو” و”فضيل بومالة” و “سعد بوعقبة” وغيرهم من المناضلين الدخول في حوار مع أي كان وبدون أفق. فمع من سيكون الحوار؟ لا يمكن القبول بالحوار مع “تبون”، لأنه شخص بدون شرعية سياسية، ولا علاقة للشعب الجزائري به، لأنه لم يصوت عليه. لذلك، أكبر فخ يمكن السقوط فيه الحراك هو قبول الحوار مع شخص لا شرعية سياسية له، لأن هذا القبول سيكون قبولا لاستمرار النظام العسكري، الأمر الذي يتعارض مع المطلب المركزي للحراك الشعبي.
فإذا قبل ممثلوه الحوار مع هذا الشخص، فإن الرأي العام الدولي سيفهم من ذلك أن النظام العسكري مستمر، وأنه لم يعد موضوع رفض من قبل الشعب الجزائري. كما أن بقاء النظام العسكري سيحول دون تنظيم انتخابات ديمقراطية في الجزائر، حيث سيتكرر سيناريو الجنرال “القايد صالح” الذي تحايل على الحراك، وطعنه من الخلف وسرق منه “ثورته”، وانقلب عليه… لذلك لا يمكن السماح بتكرار هذه المناورة مرة ثانية.
أما بالنسبة لموضوع المفاوضات أو الحوار، فحول ماذا ينبغي أن يكون الحوار؟ وتجنبا للسقوط في متاهات المخابرات الجزائرية، وما تنصبه من فخاخ لمناضلي الحراك، وإخلاصا لمطالب الحراك، فإنه ينبغي أن تقتصر المفاوضات على كيفية رحيل العسكر وإجراءات ذلك. أما مطالب الحراك، فهي واضحة، حيث إنه يطالب بتغيير النظام، لأن الجزائر لا تمتلك مؤسسات ديمقراطية فعلية، والعسكر يحولون دون ذلك، لأنه يتعارض مع طبيعتهم، والتغيير يعني رحيلهم. فالعسكر يصنعون “الرئيس” وكل المؤسسات، والشعب لم يعد يقبل أن يأتوا بـ”رئيس” لا حزب له ولا برنامج، ما يعني أن هذا الشعب يريد تعددية فعلية قائمة على المواطنة، ويطالب بفصل السلطات، واستقلال القضاء، لأن دولة الجزائر ليس لها أي قانون، أو دستور، وإنما تتحكم فيها مجموعة من قطاع الطرق التي يرفض الشعب استمرارها. لقد رفع الشعب شعارات رافضة للتحكم في البلاد من قبل الجنرالين “خالد نزار” و”توفيق محمد مدين” اللذين صارا يحكمان الجزائر من وراء حجاب. كما أن الشعب الجزائري بات يعي أن الجنرالات لا يستطيعون العيش في دولة الحرية والديمقراطية، لاسيما أنه لا توجد اليوم في دولة العسكر مواد غذائية، ولا سيولة نقدية، ولا تعليم، ولا سكن لائق، ولا تطبيب….
بناء على ذلك وغيره، يتضح أن الشعب الجزائري يريد تغيير النظام، وأنه لن يقبل بأقل من هذا. كما أن نخبة الحراك تعي أن الجنرالات يريدون التحايل على الحراك عبر إدخاله في نقاشات هامشية أملا في أن يفضي ذلك إلى خلق خلافات بين صفوفه، وإضعاف جذوته وزخمه..
وإذا كانت المخابرات تروج سرا أن “الرئيس” يستقبل المجتمع المدني، فهذا يؤكد فقرها الفكري، إذ لا وجود لمجتمع مدني في ظل نظام عسكري. وإذا استمر الحراك الشعبي قويا، فإنه سيفرض على العسكر قبول التفاوض حول انسحابهم من السلطة، خصوصا أن الرأي العام الأممي يعترف بأن هذا الحراك الشعبي هو حركة سلمية تروم البناء الديمقراطي… لذلك، فإن كل شروط انتصار الحراك متوفرة، ما يقتضي استمراره والحرص على وحدة لحمته.