محمد بوبكري
لقد سبق أن صرح “عبد المجيد تبون” في آخر مقابلة صحفية له أن المؤسسة العسكرية الجزائرية قد تركت السياسة، وأصبحت أكثر احترافية ومهنية، حيث لم تعد تمارس السياسة. لكن سرعان ما جاءت الافتتاحية الأخيرة لمجلة “الجيش”، الناطقة باسم “سعيد شنقريحة” وعصابته، لتكذب كلام “تبون”، لأنها تؤكد أن العسكر غارقون في السياسة حتى النخاع.
لقد عبر الجنرالات من خلال هذه الافتتاحية عن رفضهم للشعار المركزي للحراك الشعبي الجزائري الذي يطالب بـ:”دولة مدنية، ماشي عسكرية”، ما يعني أنهم متمسكون بالسلطة ويرغبون في الاستمرار فيها، وأنهم لم يستوعبوا هذا المطلب الذي يحظى بإجماع الشعب الجزائري؛ فالشعب يريد دولة يدبرها المدنيون لا جنرالات العسكر، ما يدل على أنه يريد تعددية حزبية فعلية مستقلة عنهم، تتنافس فيها الأحزاب على أساس برامج، ويتم الاحتكام، في نهاية المطاف، إلى صناديق الاقتراع، ما سيمكن الحاصلين على أغلبية الأصوات من الوصول إلى السلطة. كما أن الشعب يريد رئيسا وبرلمانا لا يعينهما العسكر، ومجالس شعبية لا يتم طبخها في مكاتب المخابرات. ومعنى ذلك أن الشعب يريد أن يكون القرار له، لا في يد الجنرالات، وأنه يسعى إلى إرساء قطيعة جذرية مع النظام العسكري، لأنه يدرك أن الجنرالات الطغاة يفتحون الباب للغزاة، كما أن فسادهم يخرب الجيش والاقتصاد وباقي القطاعات الأخرى، ما قد يقود حتما إلى إضعاف الكيان الجزائري وانهياره..
وإذا كان الجنرالات يتشبثون بصناعة كل القرارات التي تهم حياة الجزائر والجزائريين، فبأي حق يفرضون وصايتهم وحجرهم على الشعب الجزائري؟ وبأي حق يقول الجنرالات للشعب الجزائري: “نحن نختار لك”؟ ألا يتضمن تشبثهم بالسلطة واحتكارهم لكل القرارات احتقارا للشعب الجزائري؟ وهل هم يمتلكون مؤهلات فكرية للقيام بذلك؟ أليسوا فارغي الوفاض؟ وهل لهم مشروع صادق عليه الشعب الجزائري؟ لا يمكن أن يكلف العاقلون أعمى بسياقة حافلتهم في طريق مليء بالحفر والمنعرجات.
وما يدحض كلام “تبون” هو أن وسائل الإعلام الرسمية تغطي أنشطة الجنرال “شنقريحة” وكل حركاته وسكناته، ما يدل على أن كل شيء في الجزائر يدور حول الجنرالات. ونتيجة ذلك، فالواقع يفند كلام “تبون”، ويؤكد أنه مجرد كذب وتضليل، وأن الجنرالات هم الحياة السياسية ذاتها، ولا حياة سياسية للشعب الجزائري، لأن العسكر أقصوه من الفضاء العام الذي يرفضون وجوده أصلا، لأن ذلك يتعارض جذريا مع فكرهم الاستبدادي، ولأنه سيرفض سلطتهم…
وإذا كان “تبون” يريد التستر على غرق الجنرالات في أوحال السياسة، فإن الافتتاحية الأخيرة لمجلة “الجيش” الجزائرية تجعل كلامه هذا عار من أية حقيقة، حيث تقول: “الجيش يتمسك فعليا ووجدانيا وميدانيا بالبقاء مع الشعب تحت أومر قيادة أركانه…”.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك فرقا بين الجيش والجنرالات، لأن الجيش قد خرج من رحم الشعب خلال “ثورة التحرير الجزائرية”، ولم يؤسسه الجنرالات، كما لم يؤسَّس في ثكنات عسكرية فرنسية، أو في المدارس الفرنسية لتكوين ضباط الصف، التي تخرج منها جنرالات جزائر اليوم، الذين لا يمتلكون أية ثقافة عسكرية حديثة، ولا أي ثقافة مدنية ديمقراطية حديثة، بل إنهم مجرد طغاة ينتمون إلى عصور الغاب، حيث يأكل القوي الضعيف، ويفترس الغني الفقير…. فهم لا علاقة لهم بالجيش، ولا بالشعب، لأن نمط حياة الجنود ومستواهم الاجتماعي ومعاناتهم اليومية من قساوة العيش لا تختلف عن الظروف الاجتماعية ومعاناة عامة الشعب الجزائري، ما يؤكد أن الجنود يصنفون اجتماعيا ضمن عامة الشعب، لأنهم يشتركون معه في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية. لذلك لا يمكن الخلط بين الجنود والجنرالات الذين يمارسون الطغيان عليهم وعلى الشعب في آن واحد، حيث لا علاقة للجنرالات بالشعب على المستوى الاجتماعي…
وما دام العسكر يمارسون السياسة، فإن حديث هذه الافتتاحية عن أنه “سيبقى الجيش مع الشعب تحت أومر قيادة أركانه”، يعني أنه لا سلطة مدنية على الجيش، بل إن الجنرالات هم وحدهم الذين يسيرونه، كما يسيرون شؤون الدولة والشعب الجزائريين، ما يفيد انفلات الجنرالات من أي توجيه أو مراقبة، أو قرار مدني.
لذلك، فلا علاقة للجيش بالشعب، لأن الجنرالات يريدون فصله عنه، إنهم يعادون الشعب. وهذا ما يفند ادعاءهم بأنهم يرغبون في البقاء مع الشعب! فالجنود خرجوا من الشعب وسيبقون معه، لأن السياسة الاجتماعية للجنرالات صنفتهم ضمنه، ما يدل على تهميشهم له.
هكذا، تكشف هذه الافتتاحية كذب الجنرالات على الشعب الجزائري، كما أنها تدخل في إطار التحايل عليه من أجل استمرارهم في السلطة. لذا، فإن الجنرالات يقدمون تفسيرا مغلوطا للدولة المدنية، بما ينسجم مع رغباتهم وطموحاتهم، لكن يبدو لي أنهم خارج التاريخ، لأنهم لم يفهموا العمق السياسي لشعارات الحراك الشعبي.
لقد أنفق الجنرالات الملايير على وسائل الإعلام التابعة لهم، كما مارسوا الدعايات المغرضة ضد جيرانهم بهدف تحميلهم مسؤولية توجيه الحراك الشعبي وتأجيجه.
لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، لأن العيب فيهم وليس في غيرهم؛ فالشعب الجزائري يعرف من نهب أمواله وخيراته وأفقره، كما يعرف من يسلط عليه مختلف أنواع القمع والعنف لإسكاته، لا لشيء سوى لأنه طالب بحقوقه في أن يكون إنسانا متمتعا بحقوقه كاملة. لذلك، فالشعب الجزائري يخرج إلى التظاهر في الشارع كل يوم ثلاثاء وجمعة، عن قناعة وإيمان، لا تحت تأثير أي جهة أجنبية، ما يؤكد أن الجنرالات قد فشلوا في التأثير فيه، لأن وعيه العميق بأوضاعه وتاريخه جعله ينفلت من تأثير وسائلهم.
وبما أن الحراك قد تجاوز الجنرالات، فإنهم فكروا في تحميل مسؤليته لجهات خارجية. ويدل هذا التشكي على أن دولة الجنرالات ضعيفة، لأن القوي لا يشتكي، ما يعني أنها ليست دولة بالمفهوم الحديث. لقد اتهم الجنرالات كلا من المغرب وإسرائيل وفرنسا بتجنيد صفحات كثيرة على “الفايسبوك” لتعبئة الحراك الشعبي ضد سلطتهم، ويتناسون أن الرأي العام الجزائري يعلم أن وزارة الدفاع الجزائرية هي الأكثر طلبا للفيزا بهدف التوجه إلى فرنسا، ما يكشف تناقضهم وكذبهم، حيث تنطبق عليهم القولة الشهيرة القائلة: “ما أبلغ العاهرة حين تتكلم عن الشرف”.
كما يتناسى الجنرالات أن هناك جزائريين يؤثرون في الشارع الجزائري عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. فعوض أن يراجع العسكر ذواتهم، صاروا يعترفون بضعفهم أمام الحراك الشعبي عبر وسائل الاتصال التابعة لهم، التي عرت كذبهم وتضليلهم، وعدم قدرتهم على التأثير في الشارع الجزائري لأنه صار على وعي بكذبهم وتضليلهم، وصار يقاطع كل منصاتهم الإعلامية….
هكذا، فلا علاقة للجنرالات بالشعب، ولا بالجنود، بل إن الشعب قد قرر قطيعة نهائية معهم. لذلك عليهم أن يفكروا في الرحيل قبل فوات الأوان…