
يعكس التقرير الأخير الصادر عن منصة “تيك توك” بشأن “إنفاذ إرشادات المجتمع” للربع الأول من سنة 2025، تحوّلًا عميقًا في فلسفة الإشراف على المحتوى الرقمي، لا سيما في دول شمال إفريقيا والخليج العربي، حيث أصبحت المنصة تُمارس رقابة استباقية صارمة وغير مسبوقة على ما يُنشر ضمن نطاقها. الأرقام التي أوردها التقرير لا تعكس فقط حجم التفاعل الهائل الذي تحظى به المنصة، بل تكشف عن حجم المعركة اليومية التي تخوضها تيك توك في مواجهة محتوى يُعتبر خارجًا عن معاييرها المجتمعية.
ففي المغرب وحده، تمّت إزالة أزيد من مليون فيديو خلال ثلاثة أشهر فقط، بمعدل استباقي بلغ 98.9 في المائة، أي قبل أن يُبلّغ عنها المستخدمون، وهو ما يؤشر إلى تعزيز غير مسبوق للذكاء الاصطناعي وقدرات الخوارزميات في رصد المحتوى المخالف بشكل تلقائي، وتالياً تقليص مساحة الانفلات الرقمي.
لكن اللافت أكثر هو توسع نطاق هذه الرقابة إلى البث المباشر، الذي يُعد من أكثر الأدوات تأثيرًا في صياغة الرأي العام وقيادة المواقف، حيث تم حظر الآلاف من المضيفين وإيقاف مئات الآلاف من الجلسات المباشرة في دول مثل مصر، العراق، والإمارات، ناهيك عن المغرب ولبنان. هذا الانتقال من مجرد الإشراف التقليدي إلى “الضبط الحي” يعكس درجة القلق التي باتت تثيرها المحتويات الفورية غير المراقبة، خاصة في السياقات السياسية أو الأخلاقية الحساسة.
وإذا كان التقرير قد استعرض أرقامًا مفصلة حول نسب الإزالة والبلاغات والاستئنافات، فإن القراءة المتأنية لهذه البيانات تكشف عن دينامية جديدة في توازن القوى بين المستخدم والمنصة. فبينما يبدو أن “تيك توك” تنحاز أكثر فأكثر إلى “الرقابة الاستباقية”، فإن تزايد حالات الاسترجاع – والتي بلغت 209 ألف حالة في العراق وحده – يُعبّر عن وعي المستخدمين بحقهم في الطعن، وعن شعورهم المتزايد بوجود هامش من الخطأ في قرارات المنصة، وهو ما يُعيد طرح سؤال جوهري حول حدود الرقابة الآلية وأخلاقيات الخوارزميات.
وفي هذا السياق، يُطرح إشكال مركزي يتعلق بمدى تأثير هذه الرقابة الصارمة على حرية التعبير، لا سيما في فضاء يُعتبر المتنفس الأساسي لفئات واسعة من الشباب في العالم العربي. كما تُعيد هذه الأرقام النقاش حول مفهوم “السلامة الرقمية” كقيمة محورية، ليس فقط لضمان تجربة مستخدم آمنة، بل كذريعة مركزية تُوظف لتبرير تدخلات قد تطال المحتوى السياسي، الثقافي، والديني، بطرق يصعب التحقق من حيادها.
إن التقرير، رغم طابعه التقني، يعكس تحوّلات سياسية وثقافية عميقة في علاقة المواطن بمنصات التواصل، ويؤشر إلى بروز نمط من “الحوكمة الرقمية الصلبة”، التي تُملي على المجتمعات إعادة التفكير في قوانين حرية التعبير، السيادة الرقمية، وحقوق المستخدم في العصر الجديد للخوارزميات الحاكمة.
