جميلة بوحريد من عارضة أزياء الى أيقونة الثورة الجزائرية

ثاثرةٌ من جبل الأطلَس
يذكرها الليلكُ والنرجس
يذكرُها.. زهرُ الكبَّاد..
ما أصغرَ ”جان داركَ“ فرنسا
في جانب ”جان داركَ“ بلادي..

لم تكن تلك الأبيات للشاعر الراحل نزار قباني (1923-1998) سوى جزء بسيط جدا من سلسلة طويلة من القصائد التي يزيد عددها على الثلاثين كتبها أهم شعراء العالم العربي كتحية لنضال المجاهدة الجزائرية الكبيرة جميلة بوحيرد.

ومثلما انبهر نزار بنضالها، وقرر عام 1961 إهداءها قصيدة باسمها جاءت في ديوان موسوم بـ“حبيبتي“، قص الحكاية أيضا الشاعر مظفر النواب، وقد تحولت المجاهدة الجزائرية ”جميلة بوحيرد“ إلى ظاهرة عربية تسحب البساط من تحت جان دارك بطلة حرب المئة عام التي دارت بين الفرنسيين والإنجليز، كما يقول نزار قباني.

القصة لفتاة حسناء تكره كل مساحيق التجميل في عمر الزهور، وزهدت في إحساس مداعبة خصلات شعرها، قبل أن تتحول لعنوان ثورة وقضية لا تقل أهمية عن قصة ملكة تدمر زنوبيا، أو حكاية الفلسطينية دلال المغربي وليلى خالد. فاليوم لا يمكن أن نعرج بالذكر على نضال نساء العالم دون الإشارة إلى جميلات الجزائر ومنهن جميلة بوحيرد، فما حكايتها؟ ولماذا تحولت إلى رمز تتغنى به القصائد والأبيات الشعبية.

بوحيرد.. جميلة الجميلات

عمرها اليوم 84 عاما، قضت منها خمس سنوات في المعتقلات الفرنسية بعدما حكم عليها بالإعدام عام 1957. هزت حكايتها العالم عندما ألقت قوات المستعمر الفرنسي القبض عليها، ودفعت العديد من الدول للتدخل من أجل الضغط على فرنسا للعدول عن تنفيذ حكم الإعدام.

هكذا ذاع صيت جميلة الجزائر وهي فتاة في سن العشرين، لتكون جزءا من حكاية السنوات الأولى للثورة الجزائرية، وتتحول إلى قضية تسلط الضوء على سنوات العذاب الذي عاشته الجزائر، ورمز لنضال امرأة عربية دونت اسمها بالدم في سجلات التاريخ.

عندما اندلعت ثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني من أعالي جبال الأوراس، كان الثوار في أمس الحاجة إلى لمسة نسائية من أجل القيام بعمليات في الجزائر العاصمة تحديدا، وقد ولدت تلك اللمسة في حي القصبة بأعلى الجزائر العاصمة، وبأسماء مختلفة، والصدفة أن ثلاثة من أشهر مناضلات الجزائر حملن اسم جميلة: جميلة بوحيرد، وجميلة بوباشا (81 سنة) وجميلة بوعزة (1938-2015).

هن رفاق الكفاح الثلاثة في بداية الطريق رفقة الشهيدة حسيبة بن بوعلي (1938-1957)، فرغم صغر سنهن فإنهن لم يتأخرن عن أداء الواجب الوطني، وقررن الالتحاق بالثورة ومساعدة ”الخاوة“ على وضع القنابل في مراكز تجمع قوات المستعمر، وهي مهمة لم تكن سهلة، بل كانت شبه مستحيلة أمام المجاهدين الجزائريين الرجال.

أهدت المناضلة الجزائرية شبابها للجزائر عندما التحقت بالثورة في سن 19 عاما، أصبحت حلقة هامة تربط قادة الثورة بالعمليات التي كانت تخطط لها جبهة التحرير الوطني. وكانت بدايتها عبر تنفيذ تعليمات المجاهد ياسف سعدي (91 عاما) الذي شغل منصب ”قائد المنطقة المستقلة بالعاصمة“ وكان عضوا في اللجنة الثورية للوحدة والعمل مكلفا بربط الاتصالات مع خلايا المناضلين بالقصبة.

ولدت جميلة عام 1935 في حي القصبة بأعلى الجزائر العاصمة من أب جزائري وأم تونسية، وكانت البنت الوحيدة ضمن عائلة تضم سبعة أولاد. لقد كانت جميلة اسما على مسمى، انطلقت بأحلام الزهور فتعلمت الخياطة والرقص وكانت تحلم بأن تكون مصممة أزياء، ولكن القدر قادها لتكون مصممة أجمل نضال في تاريخ البشرية.

بعد عامين من التحاقها بصفوف الفدائيين كمتطوعة قامت بوضع العديد من القنابل في مقاهي الفرنسيين ومراكزهم الحساسة بالجزائر العاصمة، إلى أن انكشف أمرها بعدما أصبحت تشكل مصدر إزعاج للفرنسيين وتهدد وجودهم في الجزائر. وقد شنت قوات المستعمر الفرنسي حملة لإلقاء القبض على جميلات الجزائر، وخصصت مكافآت مالية كبيرة لكل من يبلغ عن مكان وجودها.

في أبريل/نيسان 1957 سقطت جميلة على الأرض بعدما تلقت رصاصة في الكتف في إطلاق نار متبادل بين القوات الفرنسية والمجاهدين، وألقي القبض عليها من قبل الفرقة الرابعة من فوج الزواف سيرفنت التاسع، وفي المعتقل تعرضت لأبشع أنواع التعذيب لدفعها للاعتراف بمكان وجودها مختبئة، لكنها لم تقدم سوى معلومات غير مهمة ضمت عنوان مخبأ يحتوي على 13 قنبلة وأسلحة، ليتم اتهامها بتورطها في الهجمات رفقة جميلة بوعزة.

وجدت بوحيرد نفسها -وهي فتاة تبلغ من العمر 22 عاما- بين يدي ضباط المستعمر الفرنسي فريسة ينهش لحمها بكل الطرق. وقد وجهت لها المحكمة مجموعة من التهم قبل أن تُصدر حكما بإعدامها لتكون عبرة لمن لا يعتبر من ثوار الجزائر، وقد جاء القرار في 11 يوليو/تموز 1957 بعدما قرأ القاضي التهم على هذا النحو ”إحراز مفرقعات والشروع في القتل والاشتراك في حوادث قتل وفي حوادث شروع في قتل وتدمير مبان بالمفرقعات والاشتراك في حوادث مماثلة والانضمام إلى جماعة مسلحة من القتلة“.

تصنف محاكمة بوحيرد في خانة أبشع حلقات العدالة في تاريخ فرنسا، بين تزييف الحقائق وإرغام زميلتها الشهيدة جميلة بوعزة على الاعتراف تحت التعذيب، ارتكبت المحكمة خروقا كبيرة للقانون، وجمع المحققون هذه الشهادة المزيفة بتوقيع زميلتها بوعزة قالت فيها ”جميلة بوحيرد وضعت قنبلة في سلة المهملات يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، وفي يوم 26 يناير/كانون الثاني 1957 وضعت قنبلة ثانية انفجرت في مقهى آخر نتج عنه قتل شخصين“.

أثناء محاكمتها التاريخية في يوم 11 يوليو/تموز 1957 وبعد قراءة التهم ونص الشهادات، ردت جميلة على القاضي بكل ثقة ”يا سادة إنني أعلم أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لأن أولئك الذين تخدمونهم يتشوقون لرؤية الدماء، ومع ذلك فأنا بريئة، ولقد استندتم في ذلك إلى أقوال فتاة مريضة -وتقصد زميلتها جميلة بوعزة- ورفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقلية بمحضر تحقيق وضعه البوليس ورجال المظلات وأخفيتم أصله الحقيقي إلى اليوم، والحقيقة أنني أحب بلدي وأريد له الحرية ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني“.

جاك فيرجس.. حلقة مهمة في حياتها

تحولت محاكمة بوحيرد إلى قضية دولة في فرنسا، ورفض عدد كبير من المحامين الفرنسيين الدفاع عنها خوفا من ردة فعل الرأي العام الفرنسي وتعرضهم لمضايقات من قبل الحكومة الفرنسية، ولم يتقدم للدفاع عنها إلا المحامي الفرنسي جاك فيرجس، وقد تبنى القضية بشكل إنساني وكمناضل آمن بحق الجزائريين في الاستقلال.

تعتبر حكاية بوحيرد حلقة هامة بين نضال الجزائريين والفرنسيين وخاصة الشيوعيين الذين آمنوا بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، حيث قام المحامي فيرجس بمرافقة دفاعه عن بوحيرد بحملة إعلامية مع الصحفي الفرنسي هنري آرنو (1917-1987) للترويج لقضية بوحيرد على المستوى الدولي وكسب التعاطف والضغط على فرنسا، وقد نشرا بيانا بعنوان ”جميلة بوحيرد“ تم توزيعه على نطاق واسع ركزا فيه على سوء المعاملة والتعذيب الذي يمارسه الجيش مع المقاتلين الجزائريين، وقد ساعدهم في الترويج لذلك على مستوى دولي الصحفي والحقوقي الفرنسي الشيوعي هنري أليغ (1921-2013) عندما كان مديرا لجريدة ألجير رببليكان.

ونتيجة للضغط الذي مارسه الرأي العام العالمي، رضخت فرنسا للمطلب ليتم تعطيل قرار الحكم بالإعدام، ونقلت بوحيرد إلى سجن ”ريمس“ عام 1958 ولم يتم إطلاق سراحها إلا بعد استقلال الجزائر في يوليو/تموز 1962، وقد دفع الصحفي الفرنسي هنري أليغ الثمن غاليا بسبب دعمه للقضية الجزائرية، حيث تم اعتقاله في يونيو/حزيران 1957 بتهمة دعم الإرهاب وحكم عليه بالسجن عشر سنوات.

وقد جاء قرار إطلاق سراح بوحيرد في إطار اتفاقيات إيفيان 1962 التي مهدت لاستقلال الجزائر، وما سبقها مفاوضات على إطلاق سراح الأسرى الجزائريين بشكل تدريجي.

النظارات السوداء.. اختفاء ورفض للمناصب والإعلام

بعد استقلال الجزائر، تزوجت جميلة بوحيرد بالمحامي الفرنسي جاك فيرجس من عام 1965 إلى 1970، وقد أشهر إسلامه واتخذ اسم منصور ومنحت له الجنسية الجزائرية وبات يلقب بـ“محامي الأرض“، وقد أنجبت منه بوحيرد اثنان من الأبناء هما مريم (1967) وإلياس (1969).

تولت جميلة رئاسة اتحاد المرأة الجزائري، لكنها غادرت المهمة بسبب خلافها مع الرئيس الراحل أحمد بن بلة. لتختار أن تعيش في الظل، وقررت الابتعاد عن الصحافة ووسائل الإعلام إلى درجة أن البعض كان يعتقد بأنها استشهدت أو توفيت، فلم يكن هناك الكثير من المعلومات عن حياتها، وظلت تشبه اللغز بنظارتها السوداء التي كانت ترتديها دائما، ولا تظهر إلا في مناسبات نادرة جدا، وعندما توفي جاك فيرجس عام 2013 لم تظهر في جنازته، مما طرح سؤالاً كبيرا عن سبب غيابها الذي أرجعه البعض حينها إلى تدهور حالتها الصحية.

جميلة بوحيرد.. حكاية فيلم وأغنية

لقد أهدت فيروز عام 1962 لجميلة أغنية بعنوان ”رسالة إلى جميلة بوحيرد“، من ألحان الأخوين رحباني، عبرت فيها فيروز عن محبتها لجميلة، يقول مطلع الأغنية ”جميلة، صديقتي جميلة، تحية إليكِ حيث أنتِ، في السجن في العذاب حيث أنت، تحية إليك يا جميلة، مِن ضَيعتي أغنية جميلة“.

كما غنت لها وردة الجزائرية أغنية ”كلنا جميلة“، من كلمات ميشيل طعم وألحان عفيف رضوان.

ولا يمكن المرور على حكاية جميلة، دون ذكر المخرج المصري الراحل يوسف شاهين (1926-2008) الذي أخرج فيلما عن حياته ونضالها. والمفارقة أن هذا الفيلم الذي ساهم في تسويق صورة جميلة بوحيرد عربيا لم تشاهده المعنية بالأمر كاملا كما صرحت في حوار نشر في صحيفة ”المصري اليوم“ بتاريخ 14-08-2017، بل مقاطع منه فقط، وأنها لم تلتق في حياتها بالفنانة ماجدة الصباحي التي جسدت دورها في الفيلم.

وقالت بوحيرد عن الفيلم ”عمري في حياتي ما قلت كلمة عن الفيلم، لكن قلت إنهم صنعوا الفيلم وأنا في الزنزانة محكوم عليّ بالإعدام“. وأضافت ”واليوم أراد فنانون جزائريون أن يصنعوا فيلما عني ولم أعطهم إجابة بالموافقة، قالوا لي لكنك وافقت على تقديم فيلم عنك في مصر، فقلت لهم: لم أكن أستطيع أن أوافق أو أرفض لأنني كنت في الزنزانة محكوم عليّ بالإعدام وأنتظر أن يأتي السجان وشّ الفجر كي يقطعوا رأسي، فأين رأيت يوسف شاهين حتى أوافق؟“.

من ميدان الثورة إلى ميدان الحراك

بعد 67 عاماً من دورها البطولي في مقاهي العاصمة؛ مقهى ”ميلك بار“ ومقهى ”طونطوفيل“ وشارع ”ديسلي“ وشارع ”ميشلي“ إبان الفترة الاستعمارية، عادت جميلة إلى تلك الأماكن نفسها لتلتحق بالحراك الشعبي في أسابيعه الأولى، لتفجر نضالا جديدا ضد فساد نظام بوتفليقة، قررت النزول إلى الشارع بعدما شاهدت صور الملايين من الجزائريين الذين خرجوا إلى الشارع يوم 22 فبراير/شباط 2019 رافعين شعار ”لا للعهدة الخامسة“، وقررت أن ترافق شبابا في عمر أحفادها لتنتصر إلى صرخة الحرية الجديدة التي رفعها الشعب الجزائري.

التحقت جميلة بوحيرد بميدان الحراك الشعبي في وقت مبكر لتنفذ وعدا قديما قطعته عام 2013 عندما قالت إنها ستخرج للشارع لو ترشح بوتفليقة لولاية رابعة عام 2014، لكن الأمور اليوم اختلفت تماما عن ذلك الوقت، وقد جاء خبر نزولها إلى الشارع لأول مرة يوم 27 أبريل/نيسان 2019 كأنه هدية سماوية للحراك الذي عقد العزم على أن يرحل بوتفليقة ورموز نظامه.

خاطبت المجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد الشباب قائلة ”لقد حان الوقت للقيام بدوركم يا شباب، عليكم بحماية الجزائر وتحريرها من أيادي الأفاعي والكائنات المميتة التي لم تعرف قيمة الجزائر“.. هكذا دونت جميلة بوحيرد اسمها بأحرف من ذهب في جمعة 1 مارس/آذار 2019 التي جاءت قبل إعلان الرئيس بوتفليقة استقالته.

وفي 23 أبريل/نيسان عادت جميلة إلى الميدان من أجل الدفاع عن حق الطلبة في التظاهر السلمي، وقد سجل أحد المارة فيديو لها وهي تحاول بجسدها الضعيف ردع رجال الشرطة ومنعهم من الاعتداء على الطلبة في ساحة البريد المركزي وسط الغاز المدمع الذي حاصرها من كل جهة.

اليوم لا تزال الجزائر تنظر إلى هذه المجاهدة الكبيرة بكثير من الاهتمام، بل أكثر من ذلك لم تتوقف مبادرات الحوار عن الإشارة إلى اسمها كشخصية وطنية كبيرة من شأنها قيادة الحوار وتقديم حلول للجزائر وهي تمر اليوم بمخاض عسير، إلا أن بوحيرد لا تزال ترفض تلبية الدعوة، فهي من جهة لا تريد أخذ مكان غيرها من الشباب، ومن جهة ترفض الحوار مع نظام تقول إنه سجن أخاها في النضال المجاهد لخضر بورقعة.

قالت بوحيرد في بيانها ردا على طرح مبادرة ”التغيير“ لاسمها كإحدى شخصيات الحوار ”لا حوار مع نظام يسجن أخي المجاهد لخضر بورقعة“، ونفت أي علاقة لها مع مبادرات الحوار، وشددت على تضامنها مع حراك الشعب من أجل التحرر والانعتاق والديمقراطية.

المصدر : الجزيرة الوثائقية
محمد علال

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *