بقلم: حنان رحاب
حين يصبح اللعب على الحبال سياسة، وعندما تتحول المسؤولية إلى مناورة، وحين تسود ازدواجية الخطاب دون خجل، فنحن أمام مشهد سياسي عبثي بامتياز، حيث تلبس الحكومة قناع المعارضة، وتدين سياستها بنفسها، وكأنها جهة منفصلة عن تدبير الشأن العام، متناسية أن المواطن البسيط ليس كائناً بلا ذاكرة، وأن أزمات المعيشة لا تعالج بتصريحات عاطفية أو بمسرحيات سياسية رديئة الإخراج.
في الآونة الأخيرة، شهدنا مواقف متناقضة صادمة من مكونات الأغلبية الحكومية في المغرب. أحزاب كالتجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، وجدت نفسها فجأة في موقع المدافع عن المواطن ضد غلاء الأسعار، وكأنها لم تكن صاحبة القرار في تدبير السياسات الاقتصادية والاجتماعية. مشهد يجعلنا نتساءل: من الذي يحكم فعلاً في هذا البلد؟ وهل نحن أمام حكومة تحكم ومعارضة تعارض، أم أننا أمام حكومة تعارض نفسها؟
حكومة بثلاثة وجوه.. والنتيجة واحدة!
حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يشغل مناصب حساسة داخل الجهاز التنفيذي، خرج ببلاغ ناري يندد بالإعفاءات الجمركية على استيراد اللحوم، ويطالب الحكومة – التي هو جزء منها – بإلغائها. بل وذهب إلى حد اتهام بعض الجهات باستغلال هذه الإعفاءات لمصالح شخصية، متناسياً أن أصابع الاتهام تتجه نحو أركان التحالف الحكومي ذاته. فهل الحزب يجهل من يقرر السياسات الجمركية والضريبية؟ أم أنه يمارس سياسة ذر الرماد في العيون تحسباً للاستحقاقات الانتخابية المقبلة؟
في المقابل، نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، يعترف بتدهور القدرة الشرائية للمغاربة، لكنه يسارع إلى تحميل المسؤولية إلى “جشع المستوردين الكبار”، وكأن هؤلاء المستوردين هبطوا علينا من كوكب آخر، وليسوا جزءاً من المنظومة الاقتصادية التي تدار بقرارات حكومية. وهنا يحق لنا أن نتساءل: إذا كان حزب الاستقلال يرى أن الوضع مزرٍ لهذه الدرجة، فلماذا لا يهدد بالانسحاب من الحكومة بدل الاكتفاء بلعب دور الناقد المحترف؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه حملة علاقات عامة لتحسين صورة الحزب أمام الرأي العام؟
أما حزب التجمع الوطني للأحرار، قائد الائتلاف الحكومي، فقد اختار نهجاً أكثر غرابة، عبر تنظيم ندوات فكرية لمناقشة أسباب الغلاء، وكأن الحكومة التي يترأسها حزبه ليست هي التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن الوضع الاقتصادي. وبدلاً من تقديم حلول عملية، وُجِّهت أصابع الاتهام إلى الوسطاء والمضاربين، وكأن هؤلاء يعملون في فراغ سياسي وقانوني، وليسوا جزءاً من منظومة اقتصادية تنظمها الدولة وتشرف عليها الحكومة.
الازدواجية الخطابية: هل هي استراتيجية انتخابية؟
إن أخطر ما يواجه المواطن المغربي اليوم ليس فقط الغلاء الفاحش للأسعار، بل أيضاً غلاء الأكاذيب السياسية، حين يتحول الخطاب السياسي إلى سوق مفتوحة للشعارات الرنانة والمزايدات الفارغة. فكيف لحزب يقود الحكومة أن يتنصل من مسؤوليته بهذه البساطة، ويتقمص فجأة دور المدافع عن الشعب ضد سياسات هو من أقرها وصادق عليها؟ أليست هذه محاولة مكشوفة للتموقعالسياسي استعداداً للانتخابات المقبلة؟
في ظل هذا الوضع، يصبح التساؤل مشروعاً: هل نحن أمام أحزاب سياسية تملك رؤية حقيقية لمعالجة الأزمات، أم أمام مجرد تجار للخطاب السياسي؟ إذا كان هؤلاء القادة غير راضين عن أداء الحكومة، فلماذا لا يتحملون مسؤوليتهم السياسية ويقدمون استقالاتهم؟ أم أن الاستمرار في المناصب أهم من مصداقية الخطاب؟
بين وهم “الدولة الاجتماعية” وحقيقة تضارب المصالح
من المفارقات التي تكشف ازدواجية المعايير لدى هذه الأحزاب، هو التناقض الصارخ بين الشعارات التي ترفعها والقرارات التي تتخذها. فالتجمع الوطني للأحرار، الذي يبشر المغاربة بشعار “الدولة الاجتماعية”، لا يجد أي حرج في تمرير قرارات تضر بالقدرة الشرائية للمواطنين، بينما يكتفي بتحميل الوسطاء والمضاربين المسؤولية، متناسياً أن هذه الظواهر هي نتيجة حتمية لسياسات اقتصادية غير متوازنة.
أما الأصالة والمعاصرة، الذي يرفع شعار “الدفاع عن الفئات الهشة”، فهو من بين المدافعين عن إجراءات تشريعية تحد من محاربة الفساد، بدعوى حماية المنتخبين من الوشايات الكاذبة، كما جاء على لسان وزير العدل عبد اللطيف وهبي. فهل يمكن لحزب يدعي محاربة الريع أن يدافع عن تقييد دور المجتمع المدني في التبليغ عن الفساد؟ وأي مصداقية تبقى للخطاب السياسي عندما يصبح المسؤول الحكومي في النهار معارضاً، وفي الليل مدافعاً عن اللوبيات الاقتصادية؟
الغموض السياسي: خطاب العفاريت والتماسيح يعود من جديد
إذا كانت أحزاب الأغلبية الحكومية تنتقد الأوضاع الاقتصادية وتهاجم السياسات التي تتحمل مسؤوليتها، فمن هو الفاعل الحقيقي في هذه المعادلة؟ هل نحن أمام إعادة إنتاج لخطاب رئيس الحكومة الأسبق، حين تحدث عن “العفاريت والتماسيح” التي تعرقل الإصلاح دون أن يسميها؟ إن هذه المناورة الخطابية ليست سوى محاولة لإلقاء اللوم على جهات مبهمة، بينما المسؤولية السياسية واضحة ولا تحتاج إلى اجتهاد.
إن كانت هناك قوى خفية تعرقل الإصلاح، فمن حق المواطن أن يعرفها بالاسم، وإن لم تكن هناك جهات أخرى، فالأحزاب الحاكمة مطالبة بتحمل مسؤوليتها كاملة. لم يعد مقبولاً أن نسمع وزراء ينتقدون الحكومة وكأنهم خارجها، وكأن المواطن سيقتنع بأن هناك حكومة في الواجهة وحكومة أخرى في الظل تتحكم في زمام الأمور.
المغاربة لم يعودوا يقبلون بالخطابات الغامضة والمواقف الملتبسة، بل يريدون وضوحاً في الرؤية والتزاماً سياسياً صادقاً. فإما أن تتحمل الأحزاب مسؤوليتها وتقر بفشل سياساتها وتعالج أخطاءها، أو أن يكون لها من الجرأة ما يكفي للاعتراف بأن السلطة الفعلية ليست بيدها، وهو أمر أكثر خطورة ويستوجب نقاشاً وطنياً جاداً حول مستقبل القرار السياسي في المغرب.
ما المطلوب؟
إن ما يجري اليوم في المشهد السياسي المغربي ليس مجرد اختلاف في التقديرات، بل هو ارتباك واضح في الرؤية، حيث فقدت الأغلبية الحكومية بوصلتها، وتحولت إلى تحالف يجمعه المصالح الانتخابية أكثر مما يجمعه المشروع السياسي. والأخطر أن هذه الأحزاب، بدل أن تتحمل مسؤولياتها في تدبير الأزمات، اختارت الهروب إلى الأمام عبر خطاب مزدوج يخلط بين النقد الذاتي والمزايدات السياسوية.
المواطن المغربي اليوم لا يحتاج إلى بيانات حزبية تندد بأفعال الحكومة، بل إلى سياسات عمومية واضحة المعالم، تضع حداً لهذا التناقض الفج بين الخطاب والممارسة. فالمسؤولية السياسية ليست مجرد حرفة انتخابية، بل التزام أخلاقي تجاه الشعب، الذي لم يعد يملك رفاهية تصديق الأكاذيب السياسية، بينما تتآكل قدرته الشرائية يومًا بعد يوم.
باختصار، إن كانت أحزاب الأغلبية غير راضية عن أداء الحكومة، فلتتحمل مسؤوليتها بشجاعة، أما أن تمارس المعارضة من داخل الحكومة، فتلك مسرحية لم تعد تنطلي على أحد.