في هذا المقال، سنحاول تحليل وشرح كيف يمكن للتدبير بالمشاريع وفق المعايير الدولية المعروفة عالميا أن يساعد الإدارة العمومية خاصة، والدولة بصفة عامة، على تحسين عملية التواصل الترابي وإنعاش التواصل بين الدولة والمواطنين.
إن تقنين أعمال الدولة وفقا لمعايير دولية معروفة على الصعيد العالمي، مثل معيار المعهد الدولي للتدبير بالمشاريع ”PMBOK”، سيعطي للإدارة فرصة للتحول التام من طريقة العمل الكلاسيكية (منطق السلاليم والرتب) إلى طريقة العمل “بالمشاريع” ممنهجة ومرتكزة على ضوابط زمنية في الإنجاز، مما سيمكن الدولة من توفير مخرج نهائي من مشكلات التواصل بين الإدارة والمواطنين تترتب عليها في بعض الأحيان اهتزازات مجتمعية وسياسية خطيرة، مثل ما شاهدناه في منطقة الحسيمة أو عبر ما وقع في كثير من البلدان العربية في زمن “الربيع العربي”.
هذا النوع من التدبير وطريقة الاشتغال، إذا اقترن بالتدبير الاستراتيجي المحكم واقترنت الأهداف الاستراتيجية للدولة بالمشاريع التي يتم إطلاقها هنا وهناك، وربط الكل بحاجيات المواطنين على مستوى الجهة والمدينة والجماعة وحتى الحي، فذلك سيكون أول خطوة للمغرب في إرساء أولى قواعد الديمقراطية الحقيقية والسلم الاجتماعي العادل والمستدام مبني على الواقعية والصدق في الإعلان على المؤشرات وبعيد عن المزايدات السياسية وسياسات التواصل البعيدة المنفصمة عن الواقع المعاش.
فبدلا من إغراق المواطنين في متاهات التقارير الماكرو اقتصادية المعقدة، سيمكن هذا النوع من التدبير (Mode Projet) من توجيه المواطنين نحو مؤشرات مشاريع مبسطة ومفهومة مرتبطة بالجهة والمدينة والحي، وبانتظاراتهم اليومية:
كيف يفهم المواطن ويستوعب تأثير السياسات العمومية على حياته اليومية؟
كيف يتم استيعاب برامج العمل الحكومية، الجهوية أو المحلية، والكشف عن مدى تطابقها مع انتظارات المواطنين ومختلف الشرائح الشعبية؟
فعلى مثل هذه الأسئلة سنحاول من خلال هذا البحث وبعض وسائل التحليل الاجتماعي أن نقدم بعض الأجوبة وطريقة جديدة ستمكن من إرساء دعائم قوية لتواصل واقعي ومستدام بين الإدارة والمواطن ترتكز على ما يلي:
أولا: كل الحكومات المنتخبة يجب أن تحاسب وتقيم على أساس “مؤشر إرضاء” تطلعات المواطنين من خلال البرنامج الحكومي المعلن ووفق منطق للتنقيط والتقييم مؤسس على مؤشرات “مشاريعية” دقيقة ومبسطة ومعلنة مسبقا للمواطنين عبر كل القنوات المتوفرة. كيف ذلك؟
الملاحظ اليوم، وكما اتضح لنا عبر تحليلاتنا المختلفة (العلاقة “الأصيلة” بين الدولة والمواطن: أي دور للإدارة الرقمية؟ محمد أمين المحفوظي، النسخة الأولى للمؤتمر العالمي: الأصالة والتواصل، تارودانت – المغرب، 2015) أن هناك عجزا واضحا لدى الدولة في التواصل عبر مختلف الأبعاد المستعملة عند المواطنين، وإصرارها على التواصل عبر معلومات ماكرو اقتصادية فضفاضة تكون مستعصية الفهم في معظم الأحيان وصعبة الربط بالحياة اليومية عند مختلف الشرائح من المواطنين…
إن عملية التواصل عند الدولة لا تقدم اليوم أي علاقة “سببية” بالحياة المحلية للمواطنين (تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، 2013).
ثانيا: قدمنا عبر قنوات أخرى للبحث، نموذجا وطنيا مكونا من عناصر متكاملة ومرتبطة إذا اجتمعت، نحن واثقون من ذلك، ستجنب بلادنا سيناريوهات عديدة كتلك التي عاشتها بلدان عربية كثيرة في فترة الربيع العربي. هذا النموذج “التواصلي” و”العلاقاتي” متكون من العناصر التالية:
الاستغلال العقلاني لإيجابيات شبكات التواصل الاجتماعي.
استعمال وسائل تحديد هويات المواطنين.
تنزيل البرامج الحكومية في قائمة مشاريع مفصلة ومفهومة (مؤسساتية، قطاعية، محلية).
خلق مساحات استقبال وتوجيه المواطنين في كل إدارات الدولة بدون استثناء.
تمكين مرافق الدولة من الكفاءات اللازمة وعناصر بشرية مدربة في ميادين العلاقات العامة، التواصل، وتقنيات الويب ماسترينغ (Web Mastring)، وتسيير التجمعات الرقمية إلخ…
ثالثا: المكون الثالث لهذا النموذج، موضوع مقالنا اليوم، سبق أن يرهنا على فعاليته عبر نتائج بحوث وإحصاءات ميدانية بينت عجز الدولة الصارخ في “التنظيم المشاريعي”؛ وذلك على نطاق جميع الإدارات تقريبا (بحث CIRM، محمد أمين المحفوظي، بتعاون مع المدرسة الوطنية للتجارة والتدبير بالقنيطرة – جامعة ابن طفيل، 2014).
بحوث كثيرة مكنتنا أيضا من تحليل قابلية الدولة والإدارة بمكوناتها الداخلية المعقدة والثقيلة لنهج تواصل فعال وحقيقي مع المواطنين.
فقد لاحظنا أن الإدارة المغربية تسجل نقصا صارخا في وسائل التواصل والإعلام. (نقص وانعدام _ في قطاعات ومناطق كثيرة -لشبابيك الاستقبال والتوجيه، عدم توفر وسائل رقمية وممكنة لتسجيل الشكايات، …) كما تسجل عجزا واضحا في الكفاءات المتخصصة في التواصل والعلاقات العامة بالإضافة إلى هذه الوسائل التي أدرجناها، لاحظنا كذلك عجزا في جوانب أخرى ذات تأثير مباشر وقوي على التحول المنتظر والمنشود في طريقة اشتغال الإدارة العمومية:
غياب تام لمكاتب المشاريع PMO تضمن الاشتغال الداخلي للإدارة بمنطق “مشاريعي” بدل المنطق “الإداري” المهترئ. هذا الاشتغال “المشاريعي” أو “المشاريعاتي” هو أبرز مصدر للمعلومات (Big data) الممكن تداولها عبر الشبكات الاجتماعية، المواقع الإلكترونية ومساحات المعلومات المفتوحة.
غياب شبه تام للكفاءات المتخصصة في التدبير المشاريعاتي Mode projet.
هذه النواقص أقل تواجدا بالإرادات المركزية لكنها شاملة، وحرجة (Critical) على مستوى الجماعات المحلية التي تمثل، حسب منظورنا، مصدر خطر كبير ومؤكد على توازن السلم الاجتماعي في بلادنا، مما يهدد التوجه الديمقراطي في المغرب وقد يتسبب في خلق هوة تواصلية “سحيقة” بين الإدارة والمواطنين ما فتئت تتسع يوما بعد يوم.