رأي في الاشتراكية الديمقراطية!!

علي الغنبوري

ليس من السهل اعطاء تعريف جاهز لمفهوم الاشتراكية الديمقراطية ، فهي تقف على طرفي النقيض مع مفهومين اساسيين و نظامين مختلفين ، طاغيين و مسيطرين من الناحية الفكرية و الايديولوجية ، و تتداخل معهما في عدد من النقط المشتركة ، بالاضافة الى تعدد المشارب الفكرية النابعة منها .

فاذا كانت الاشتراكية هي نظام اقتصادي و سياسي مركزي يسعى الى الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، و خلق مجتمع موحد و بدون فوارق اجتماعية، فان الاشتراكية الديمقراطية تنحو اتجاه الابقاء على المبادرة الفردية و لا تدعو الى الغاء الملكية الفردية لوسائل الانتاج ، بل هي تجعل الدولة مسؤولة على تدبير و تخطيط المنظومة الاقتصادية و الحفاظ على توجهاتها الاجتماعية ، انطلاقا من المبادئ الديمقراطية التي تشكل الاساس المتين لكل ميولاتها و توجهاتها.

وصحيح ان الاشتراكية الديمقراطية تتوافق مع الرأسمالية في استمرار المبادرة الفردية ، و اقتصاد السوق و الملكية الفردية ، و حرية التملك ،لكنها ترفض بشكل مطلق التوجهات المتوحشة لهذه الاخيرة ، و السيطرة الكلية للافراد و الشركات على الاقتصاد ، و ما ينتج عنها من فوارق اجتماعية مهولة و الغاء للحقوق و المكتسبات الاجتماعية للشعب ، فهي تسعى الى خلق نظام عادل اجتماعيا و حقوقيا ، تكون فيه المبادرة الفردية في خدمة المجتمع و ليس العكس.

الاشتراكية الديمقراطية ، ليست نظام جامد يسعى الى تنميط المجتمع و جعله وحدة مثماثلة بدون تمايزات ، بل هي تؤمن بالتعددية و الاختلاف و تجعل من الديمقراطية الالية الوحيدة لبسط رؤاها و مراميها و توجهاتها ، انطلاقا من المحافظة على مقومات العيش الكريم و التضامن المجتمعي و القضاء على الاستبداد الاقتصادي و السياسي .

والاشتراكية الديمقراطية كذلك ليست نظام هجين كما يصفها منتقديها ، بل هي طرح متكامل يسعى بدجة اولى الى تحقيق العدالة الاجتماعية و الى تجاوز الانحرافات التي تعتري الاشتراكية و الراسمالية على حد السواء ، فحرية الفرد داخلها موجهة بالاساس لخدمة المجتمع ، دون المساس بها و الغائها او تقيدها .

القول بان الاشتراكية الديمقراطية هي صيغة مخففة من الرأسمالية ، هو قول مردود عليه ، باعتبار اولا انها تطور فعلي للاشتراكية و مفاهيمها الاصلية ، و ان توجهاتها نابعة من عمق الفكرة الاشتراكية الداعية الى القضاء على الاستبداد و الى تكريس المساواة ، و ثانيا باعتبارها ضد تحكم المال في الاقتصاد ،و حرية التحرك داخله.

تميز الاشتراكية الديمقراطية عن الراسمالية و الاشتراكية ، اتبثته و اكدته التجارب الناجحة للدول الاوروبية التي استطاعات الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية داخلها من تطبيق مفاهيمها و رؤاها في بناء اوروبا المحطمة بعد الحرب العالمية الثانية ، و قدرتها على خلق دول الرفاه الاجتماعي ، التي يشكل اقتصاد السوق الالية المحكومة بقواعد و احكام مظبوطة لخدمة المجتمع ، و يساهم في بناء الدولة القوية و العادلة .

فهذه الدول ابتعدت عن منطق الليبرالية المتوحشة و روافدها النيوليبرالية الشرهة التي رفعت شعار “اتركه يتبدر امره لوحده”، و وضعت كذلك مسافة مع المعسكر الاشتراكي القائم على المركزية و الحزب الواحد و الغصب و الغاء المبادرة الفردية ، لتتجه نحو بناء مجتمعاتها على الحرية و المسؤولية و التضامن و المساهمة الجماعية في الحفاظ على الحقوق و الواجبات و المكتسبات الاجتماعية ، الضامنة للعدالة و الرفاه المجتمعي.

قدرة الاشتراكية الديمقراطية على النجاح ، نابعة من قدرتها على الاستيعاب و الانفتاح على كل مكونات المجتمع ، و على قدرتها كذلك على تحقيق الازدهار الاقتصادي المبني على العدالة و التوازن المجتمعي بين كل الفئات و الطبقات ، دون المساس بالحريات و المبادرات الفردية ،و دون ترك المجال لتسيب المال و تحكمه في الدورة المجتمعية عبر السيطرة على الاقتصاد.

الاشتراكية الديمقراطية ، هي مفهوم متطور و متحرك يتفاعل بشكل متميز مع كل المراحل التاريخية ، و يجدد الياته و مفاهيمه بشكل دائم، مايضمن له استمرار الحاجة اليه كإجابة فعلية و حاسمة و ناجعة على كل التحديات و الرهانات و المصاعب التي تواجهها المجتمعات .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *