سعيد جعفر
تعرف الدولة المغربية جيدا الفرق بين الموضوعين والتاريخين، فالملك محمد السادس الذي طرح موضوع سبتة ومليلية في أول زيارة له كولي للعهد لقصر الكلامنوا في 1996، شاهد وأحس موقف الإسبان من الملامح الغاضبة لرئيس الحكومة آنذاك خوصي ماريا أثنار، وتكونت له تبعا لهذا اللقاء فكرة عن صعوبة المهمة.
المرحوم الحسن الثاني نفسه لم يتلق أية إشارة إيجابية في الموضوع وهو يلتق أثنار ثلاثة أشهر قبل وفاته، بل أنه للأسف حمل معه غصة في قلبه وهو يسمع اليميني أثنار يقول في ذات اللقاء بأن اسبانيا مستعدة للحرب في موضوع سيادتها الترابية!!
في 2002 سيتصرف محمد السادس كوطني تجاه الوحدة الترابية لبلاده ولكنه سيتصرف أيضا كابن لملك مات وفي قلبه غصة من عنهجية رئيس حكومة يميني يهدد المغرب من داخل القصر الملكي العامر بالرباط.
ما حدث في 2002 وانتهى بتسوية أمريكية كان مغامرة جميلة من ملك شاب يجرب سلطته ووزنه في الجوار، وكان بالنسبة لليميني أثنار خطأ إستراتيجيا من محمد السادس يضاف إليه أخطاء أخرى منه!! كشفها في مذكراته “الإلتزام مع السلطة”.
وفي الحقيقة فمحمد السادس لم يكن يجرب وصفة جديدة في تدبير السيادة عبر استفزاز الجوار بل كان يقوم بصميم صلاحياته في حماية السيادة الوطنية، وقرار تثبيت 12 عشرا فردا من رجال الدرك الملكي والقوات المساعدة لم يكن خطأ أمنيا وسياسيا بل كان رد فعل مقصود ضد تحرك البارجات البحرية الاسبانية في محيط جزيرة النكور قرب الحسيمة والتي احتج عليها المغرب بشدة بما في ذلك استدعاء السفير الاسباني بالمغرب.
لم يكن غائبا عن ذهن محمد السادس موازين القوى التي تميل لصالح اسبانيا،
فسياديا وملكيا كان الملك الشاب محمد السادس يعرف أن الملك خوان كارلوس في عافية سياسية وسيادية كبيرة و سيكون دوره حاسما في إذكاء الشعور الوطني في خطاب الأمة.
وحكوميا كان يعرف أن هذه الحكومة اليمينية الشعبية بقيادة أثنار و نيابة راخوي وديبلوماسية بلاسيو ودعم معارضة اشتراكية متمرسة بالحكم منذ غونزاليس وبقيادة زاباثيرو ستكون قوية وتخلق جبهة متراصة وموحدة.
إقليميا وأوربيا كان محمد السادس يعرف أن اسبانيا ستستفيد من دعم الاتحاد الأوروبي باستثناء فرنسا شيراك، ومن دعم الحلف الأطلسي رغم أن جزيرة ليلى لا تداخل ضمن الاتفاق رقم 51.
وفي المحصلة فمحمد السادس كان يعرف أن اسبانيا ستلجأ للحل العسكري عبر تحريك الجيش في محيط سبتة ومليلية لطمأنة السكان الاسبان في المدينتين وستهدد بنقض مقتضيات اتفاقية الحوار وحسن الجوار الموقعة بين الطرفين في 1991.
نتيجة لذلك كادت الأمور أن تنتقل من جس النبض بين الطرفين إلى حرب فعلية عندما اعترضت فرقاطة مغربية فرقاطة حربية اسبانية في المياه الاقليمية، وهدد المغرب بتخريب طائرة التجسس أوريون الاسبانية.
وفي المحصلة كذلك أن محمد السادس وقف بأم عينيه على نوع الدعم الذي تلقاه في حركته من أجل قضية بلاده العادلة: دول(فرنسا وأمريكا) فضلت أن تتحرك سريا من أجل التسوية حماية لمصالحها مع الطرفين وموقف عربي موحد لكن دون أثر فعلي تكلفت به جامعة الدول العربية في تصريح إنشائي لعمرو موسى دون أن تليه خطوات فعلية إلا من السعودية والإمارات اللتان تحركتا تجاه أمريكا للضغط على حكومة أثنار.
وجهاز عسكري معادي للمغرب سيتبورد عبر إهانة المغرب بإنزال الجنود المغاربة بالقوة من الجزيرة وإنزال العلم المغربي ونصب الإسباني واخيرا تطويق الجزيرة ومحيط سبتة ومليلية في المياه الإقليمية المغربية ببارجات بحرية وفرقاطات عسكرية.
كانت تلك الإهانة التي تجرعها محمد السادس وزادت من حقده على اسبانيا التي هدد رئيس حكومتها الشوفيني المغرب بالحرب من داخل القصر الملكي العامر بالرباط.
ولهذا سيذهب محمد السادس بعد حوالي 20 عاما إلى الضغط على ما يوجع اسبانيا فعلا : سبتة ومليلية، وسيكلف رئيس حكومته “اليميني” بذلك، أي المطالبة بالجلوس إلى الطاولة حول ملف تحرير سبتة ومليلية.
ما الذي يتوفر لمحمد ااسادس في 2020 ولم يتوفر له في 2002؟
1- الملك الذي كان شابا يستكشف الحكم آنذاك أصبح اليوم ناضجا وتحت يديه ملفات ومعطيات وأوراق وخيوط كثيرة، و القول اليوم بمغربية سبتة ومليلية اليوم أثقل من خطوة عاطفية ومتحمسة في 2002 لإثبات مغربية جزيرة ليلي وليس سبتة ومليلية.
2- إذا كانت الملكية اليوم بالمغرب أكثر استقرارا ونضجا ونفوذا فهي في اسبانيا في مأزق كبير ولن يكون لها أي أثر سيادي وسياسي، فالملك فليبي لا زال تحت ضغط فضائح والده خوان كارلوس ولن يكون بإمكانه زرع الثقة أبدا حول السيادة الوطنية!
3- هذا الملك الذي تكلف رئيس حكومته اليميني بالمطالبة بسبتة ومليلية يعرف جيدا أن الحكومة الاسبانية التي ستناقشه ضعيفة جدا وبيدرو سانشيز لن يكون أبدا أثنار وراخوي، ومعارضة بوديموس الشعبوية لن تكون أبدا معارضة غونزاليس و زاباثيرو ووزيرة الخارجية الحالية لن تكون أبدا آنا بلاسيو التي ستكون وزيرة خارجية للاتخاد الاوربي لاحقا.
4- المغرب يعرف أيضا أن الاتحاد الأوروبي الذي ساند اسبانيا العضو وكلف السفير اليوناني بالرباط بابلاغ المغرب رسميا بموقفه المدافع عن اسبانيا، هو اتحاد أوروبي ضعيف اليوم ودوله مشغولة بحمائية مفرطة في مواجهة وباء كورونا وبالخروج المؤلم لانجلترا منه ومشغول بالمفاوضات العسيرة معها.
وهذا الاتحاد الأوروبي بدون شك منقوصا من فرنسا ومن انجلترا سيترك اسبانيا لحالها ولمصيرها.
وبدون شك فالحلف الأطلسي لن يتدخل بمجرد تصريحات من دولة تطالب دولة جار بالجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض طبقا لمقتضيات اتفاقية الحوار وحسن الجوار بين الدولتين في 1991.