سعيد كان
تعودت أنه في كل مرة أخرج فيها إلى محل البقال قرب البيت، أتجاذب مع صاحبه “السي عبد الهادي” أطراف الحديث، أحيانا فقط أنصت له حول غلاء الأسعار، وكيف تتحايل الشركات في الزيادات، فبدل أن تزيد درهما أو درهمين، تنقص من وزن علبة الزبدة مثلا خمس غرامات، وتبقي على ثمن خمس وعشرين غراما
وأحيانا يتحدث حول أن المغرب يصدر الغاز لأوروبا فأصحح له المعلومات، وهكذا تحدث بيني وبينه يوميا حوارات أستمتع بها لدقائق، وأمارس فيها فضول الاطلاع على آراء الناس بخصوص الكثير من القضايا
موضوع واحد لم أجرئ فيه على مجاراة “السي عبد الهادي” بتأكيد أو نفي ما يدعيه، هو عندما قال لي بالكثير من اليقين، أن شركات الزبدة والحليب وغيرها من السلع، هي جزئ من مؤامرة النظام العالمي الجديد، لتلقيح الناس وفرض حظر التجول عليهم وتحويلهم إلى عبيد…
اكتفيت بالاستماع إليه بصمت، لأنني أعلم أن مجادلته لن توصل إلى شيء، ولكن كلامه الذي كان يقوله بكثير من اليقين، أثار انتباهي إلى تفكير خطير بدئ في الانتشار بسرعة النار في الهشيم، وهو تفسير كل شيء بنظرية المؤامرة.
هذا النمط من التفكير، ليس جديدا، وربما لن يتراجع ما دام الإنسان على قيد الحياة، بل إنني أعتبره جزءا من تمرين حرية التعبير، فلا أحد يجب أن يتوقع أن حرية التعبير ستسمعه فقط ما يطربه وما يتفق معه وما يبدوا له أنه منتهى المنطق، فحرية التعبير هي تلاطم مشروع للأفكار، ولكن…
دعوني ألقي اللوم على زملائي في مهنة المتاعب، ففي الوقت الذي نشرع فيه الميكروفونات لهذا النوع من التفكير، هل نفكر حقا في موازنته بفكر آخر يرد عليه؟ أم أننا نكتفي بما يرفع المشاهدات دون أن نمحص فيه أو أن نحاول على الأقل خلق التوازن بينه وبين الرأي الآخر؟
هل إعلامنا – الرسمي وغير الرسمي _ يخضع مثل هذه الخطابات الرائجة خصوصا في زمن كورونا إلى النقاش والحوار وتصحيح المفاهيم؟
أطرح هذه الأسئلة لأنه في غياب هذا النقاش، يستمد البقال ” السي عبد الهادي ” كل معرفته من فيديوهات “الطوندونس” ومقاطع “البوز” فتنتقل بسرعة من مجرد تصريحات في دقائق إلى نمط تفكير وعيش لدى فئة واسعة من الناس، تختلف مستوياتها الفكرية والاجتماعية، ولكنها تتحد في تفسير كل شيء بنظرية “القضية فيها إن”
في هذا السياق، كنت قد أعجبت كثيرا بتجربة أحد الشباب على اليوتيوب، وهي أنه قدم سلسلة ساخرة من نظرية المؤامرة، ربط في إحدى حلقاتها بشكل ذكي بين الفنان الشعبي الستاتي وحضارة الإغريق، واعتمد أسلوب اللعب بالأرقام والأحرف والتواريخ، لكي يصل إلى خلاصة أن هذا الفنان، هو في الحقيقة مؤامرة إغريقية ممتدة عبر الزمن
وعلى الرغم من أنه قدم الفكرة بشكل ساخر، فإنه اعتمد حرفيا على منهجية تفكير نظرية المؤامرة، التي تؤدي كل طرقها إلى خلاصة مسبق، صاحب هذه القناة، يقول في وصفها أن هدفها هو إظهار سهولة خلق نظريات المؤامرة من حقائق ووقائع موثقة، فقام بربط معلومات حقيقية، واستخرج منها خلاصات تبدوا أيضا حقيقية لو نزعت من سياقها الساخر.
الخطير في هذا الأسلوب وتفشيه، هو أنه تزداد به نسبة فقدان الثقة في كل شيء، وأنه يستدل أحيانا بما يصفه بالعلم والعلم منه براء، ولعلكم شاهدتم الفتاة المحتجة على لقاح كورونا وحديثها عن “الكرافينيكوس” وشرحها لكيف تتحول الألياف في اللقاح إلى أسلاك موصلة داخل الجسم، هذا الشرح يستجدي الأسلوب العلمي ويحاكيه، حتى يعتقد السامع أن الأمر متعلق بمعلومات مجربة مختبريا، والحقيقة أنه لا شيء من هذه الخزعبلات تم جربته في مختبر، ولا تم التحقق منه عبر أساليب البحث العلمي الحق.
المصيبة أنه أصبح لهذا الأسلوب سدنة من رجال ونساء يعتمرون قبعة رجل العلم، أو الدين أو السياسة، والوقائع في هذا الباب كثيرة، فعندما تتحدث زعيمة سياسية وأستاذة جامعية بكثير من الشعبوية عن اللقاح وتشكك فيه بأسلوب غير مبني على شيء، أو عندما يتحدث خبير عن أضرار اللقاح والمواد الموجودة فيه دون أن يبين لنا متى قام باختباره واستخلاص النتائج، أو عندما يقوم أكاديمي وداعية بالترويج لأن البطيخ الأحمر معدل جينيا، عندما يحدث كل هذا من قامات علمية وسياسية، فكيف نلوم الناس على تبني هذا النمط الفكري واعتناقه؟
هؤلاء يبنون سمعتهم السياسية أو الدينية أو المعرفية على نشر الجهل وأسلوب نظرية المؤامرة، ولعب دور الضحية، وهذا النمط من التفكير يجعل معتنقه منغلقا على خلاصته، مقتنعا بأنه يقارن المعلومات ليخلص إلى النتيحة، والحقيقة أنه لو أخضعت أفكاره لميزان العلم والمنطق لخف وزنها، ولكن من يضع هذا الميزان، غائب أساسا عن هذا النقاش.
وأنا هنا لا أستنكر على الناس أن يتبنوا فكرا مغايرا، ولكن للنقاش العلمي أساليبه وأماكنه، فمثلا، ما المانع اليوم من أن يقوم أي خبير طبي أو صيدلي بإجراء بحث وتجارب علمية قابلة للقياس يقول بموجبها أن اللقاح مفيد أو مضر لصحة الإنسان؟
الشك مقبول، وبالشك طرحت أسئلة علمية عميقة تقدمت بالإنسان، ولكن هناك فرق شاسع بين الشك العلمي، والشك غير المبني على أي أساس.
لكن انتبهوا، أنا لا أدعوا إلى عدم إخضاع كل معلومة إلى الشك وميزان التفكير، على العكس، يجب أن يكون لدينا حس نقدي ثاقب، لكن دون فقدان التوازن، أو اعتماد منطق بائع الأغنام البدوي، الذي حذره الناس من النصابين في أسواق المدينة، فجعل يرد على كل شخص يسأله عن ثمن الكبش بـ: “بشحال الحوليييي؟؟؟”… وظل يومه كله على هذه الحال، لينقضي اليوم دون بيع أو شراء