شهر في الجزائر (4)

نادر فرح

عرس، نشاط، تقاليد، وأشياء أخرى.

صباح يومه السبت، كالعادة الكل منشغل بإستعدادات وتدابير العرس، اللمسات الأخيرة قبل الإعلان الرسمي عن إنطلاق فعاليات العرس الذي يننظره كل ساكنة البلدة، الكل مدعو إما للمساهمة أو للإحتفال، فتيات البلدة ينشدن ويرقصن على أنغام بعضهن، حناجر منبع الزغاريد، منزل مكسي بأعلام تطغى عليها الأمازيغية منها، شباب ينصبوا خيمةً ضخمةً لإحتواء الفرح، نساء يساعدن « لَفْقِيرَة«  في إعداد الطعام، الجد في بذلة إعتاد على ارتدائها حين يُسْتَدعى أحياناً لحضور حفلات تكريم « القدماء المقاومين« ، كريم في طور التأكد من إستعدادية الفرقة الموسيقية الرئيسية للعرس، العروسة منشغلة في التأكد من إختيارات الملابس التقليدية التي ستقدمها على شكل « تصديرة« – هي عبارة عن عرض أزياء أمام النساء، مرفوقاً بغناء ورقص وحلويات مُمَلحة، شباب البلدة همهم الوحيد هو إختيار الفرق الموسيقية التي ستحيي العرس، وعبد ربه يزين السيارة بما توَفَر من زينة، كل إنشغل بما يهمه.

ما لاحظته بشدة هو إقبال العروسة على إقتناء كل يحلو لها، أشياء نفيسة فعلاً من ملابس تقليدية وحِلِي و« حسنيات« … قد تصرف العروسة ما قد يكفي لمصاريف العرس كاملاً.

بعد الظهيرة يبدأ رسمياً قدوم الوفود المدعوة وغير المدعوة، الجد يسهر على إستقبال الرجال وتوجيههم إلى قاعة الحفل الطبيعية، أما الجدة فهي المكلفة رسمياً بتطبيق العادات وإستقبال الضيفات وهدايهن المختلفة شكلاً ومضموناً و إرشادهن إلى قاعة فسيحة داخل المنزل.

في إنتظار صفارة الحكم ليعطي انطلاقة المباراة، انزويت مع كريم في ركن ساحة خارج المنزل تحت ظل أشجار عملاقة لأخذ قسط من الراحة، آخذين بعين الإعتبار أن العرس هو نشاط حتى مطلع الصبح.

بعد أخذ ترياق المساء، صار كل شيء رسمي، إختلط الحابل بالنابل، لا مجال لمعرفة أهل المنزل من الضيوف، قررت أن أبقى قريباً من كريم إلى حين ظهور معالم العرس.

بدأت الحركة تدب ومعها معالم وأحداث العرس بقدوم الفرقة الموسيقية في سيارة ظننت أن صنفها إنقرض مع خروج الفرنسيين من الجزائر، عجلة مثقوبة، صفيحة « زنگ«  بدل الزجاج الخلفي، مرآة منزلية بدل المرآة الأصلية، طلاء كوجه بهلوان، في الزجاج الأمامي ملصق تشجيع رياضي« وان تو ثري … ڤيڤا لالجيري« – هنا تذكرت الهزيمة القاسية التي ألحقها المنتخب المغربي بنظيره الجزائري بثلاث أهداف لواحد، و أنا أنتظر بفارغ الصبر نزول الفرقة الموسيقية واحداً تلو الآخر، تارة مصافحة الأعضاء وتارة أستقبل معاني المباركة إلى أن أقدم السائق عرفت فيما بعد أنه العازف على الكمان، على غلق صندوق السيارة مستعيناً بأقفال إضافية.

و أنا مخاطباً ابن خالتي؛ فين الشيخات أخالي !؟ « عرس زيرو هادا أخالي« .

هنا إكتشفت الفرق بين الفرق الموسيقية في الأعراس الشعبية المغربية التي تحيي الأعراس و المناسبات والجزائرية، إذ أنه لا وجود لـ « الشيخات«  في الأجواق الشعبية الجزائرية.

وفي خلسة للنظر، أبهرني جو الإحتفالات في محيط النساء، بنادير ودفوف، فتيات مشتاقات للغناء والرقص أمام أنظار أمهاتهن، لما لا ونهاية نشاطهن يحل مع بداية الجلبة الذكورية وأبواق الجوق الشعبي.

عقارب الساعة تشير إلى العاشرة ليلاً، الكل متحمس لبداية العرس وأنا أولهم، الجوق يضع آخر الروتوشات للتأكد من صحة المعدات، جماهير بدأت تتقاطر من كل صوب، بدأت أعضاء الفرقة الموسيقية تأخذ مكانها، فجأة ظهر كبير المفاوضين الجد وهو يشير للجموع؛ « مرحبا بكم ونهار كبير هادا لي جيتو« … وهو ينظر إلى « رايس«  الجوق وبنبرة شبه تأكيدية؛«  نْقَا ! عنداك ! »

وأنا أتحسس ربطة عنقي التي لم ألفها، تارة أحزمها وتارةً أرخي ربطها وفي ظني أن الكل ينظر إليّ، وسوسة « لگرافاط«  هاته جعلتني أحاول تناسيها بتذكرها كل لحظة.

كريم إبن خالتي هو من ألِف اللباس الكلاسيكي وثقافة الأعراس الشعبية، وهو في قمة الأناقة، حاملا في يده « كاميرا«  وهي حلال على أهل المنزل وحرام على الآخرين نظراً للثقافة المحافِظة التي تسيطر على العائلة، لما لا وهو النائب الأول والمسؤول الثاني عن العرس برمته بعد الجد « يدَّارْ« ، هنا بدأ كريم تقاسمه المسؤوليات معي وبشكل حازم وجِدِّي، علماً أن جدي « يْدَّارْ«  إكتفى بمسؤلية السهر على راحة أصدقائه من رفاق النضال والجهاد وجيران في سنه وأفراد عائلة يتفادون الضجيج فقط، ما جعل كريم منه الآمر والناهي والمفتي في كل الأحداث، هاتف لا يكف عن الرن، اسم « كريم«  انطلت به كل أرجاء المنزل، تارة يكبح جماح غضبه وتارةً يصبه على من ساءه الحظ.

بإتفاق معه وبمساعدة بعض شباب العائلة، قررت أن أتكلف بتقديم العشاء للضيوف حتى يأخذ هو قسطاً من الراحة إستعداداً للقادم، تماماً كما خططنا وكما كنت أظن، لا فرق بين عشاء العرس الجزائري والأعراس المغربية التي سبق لي حضورها، تراتيب قبل وضع العشاء جعلت من الجموع 13 « ميدة«  وكل واحدة منها إحتوت عشراً بعد أن أخذ أحد كبار العائلة ميكروفون الجوق وهو ينادي في الجموع؛ « رْواحُو تتعشاو، مرحبا بكم كاملين« .

عشاء تقليدي شعبي، لحم بالزيتون الأخضر ثم دجاج مشوي مع الزبدة البلدية وخبز تنبعث منه رائحة « النافع« ، ومشروبات غازية باردة إضطررنا إلى وضعها في بئر بارد لتكتسب البرودة نظرا لكثرتها ولا جدوى للثلاجة في صيف حارق.

ونحن في طور تقديم العشاء، كنت مضطراً لأفقد ربطة عنقي بعد تحسسها ويدي متسخة بمرق إحدى الصحون، ضريبةً على الوسوسة، وكريم يسخر مني؛ «  أش داك ألموغرابي تلبس لكرافط « ؟!

ربما هي عقدة سترافقني طول حياتي، إذ صرت لا أستغني على ربطة العنق أبداً.

بعد إنتهاء العشاء، حان وقت « الهضم« ، حمل مقدم الجوق في يده ورقة و قلماً وهو يطوف على الجموع ويسجل !

سألت أحد الأصدقاء عن ماهية العملية فأجابني وهو يحملق في وجهي؛ « نتا مَرَاكْشْ مستغانمي !؟ راه يقيد فالدياسك لي راه يغني« .

يا له من كرم وإحترام للضيوف ! أن تحضر عرساً بدون دعوة فلا بأس، وأن تأخذ قسطك من العشاء والمشروبات والحلويات فذلك عظيم، لكن أن تتحكم في ما سيُعزَف ويُغَنَّى فتلكم قمة الكرم.

بدأ الجوق في عزف بعض المقطوعات التي تتغنى بالعروسين وأهلهما، وبعد فترة قصيرة ظهر بعض « المُهَلْوَسين«  بقنينات « إبراهيم زنيبر«  المغربي! والذين غالباً ما ينتهي بهم المطاف في كراسي إضطرارية « إحتراماً«  للملاكم العريس.

سيطرت طلبات أغاني « الراي«  و « الرگادة«  والقليل من « العلوي« ، هرج ومرج والكل يغني ويرقص في لحظات ينسى الإنسان إسمه؛ كأحد أبناء البلدة الذي ظل يناديه صديقه لوقت طويل قبل أن يلتفت إليه « راني سهيت على سميتي« .

بعد أن أنهى كريم بعض الأمور، تفرغ هو كذلك لأخذ قسط من الفرح، وهو يجرني للرقص، رغم رفضي بدعوى عدم المعرفة وأمام إصراره وبداية تغير ملامح وجهه، إضطررت للإستمتاع بالرقص على نغمات الركادة والراي، قبل أن أنغمس في هذا الجو وأنسجم في حفل إكتشفت أنه كان لحظة إنتظار كل شباب البلدة، لما لا، ونحن سنعيش حياةً واحدةً ولا وجود للخلد !

بعد مرور مدة قصيرة على بداية الجوق، أحد أعضاء الجوق وفي يده ميكروفون؛ فلان ولد فلان، 500 دينار، حاب أغنية …، إنه «  التبراح«  بالعامية الجزائرية، « التعلاق أو لغرامة «  بالمغربية.

الفرق الوحيد في هذه العملية هو أن « التعلاق أو لغرامة«  المغربي يلازم « الشيخات«  في الأعراس، أما « التبراح«  الجزائري فغالباً ما يلازم كل أعضاء الجوق رغم عدم وجود « شيخات«  بينهم.

بين الفينة والأخرى تظهر بعض المشادات الكلامية وأحياناً بالأيدي، إلا أنها كانت حالات شاذة ولا تعبر عن ثقافة ووعي وإحترام الحاضرين لمنزل العرس.

اليوم الأول من العرس شارف على الإنتهاء كما بدأ، تدبير وتنظيم محكم طبعاً بمساعدة الحاضرين، الساعة تشير إلى ما بعد الفجر بدقائق، بدأت الجموع الحاضرة تنسحب لحال سبيلها حتى تحولت الساحة الفسيحة مرتعاً لجثث بشرية قد أعياها الرقص والنشاط وإضطرت للنوم خارج المنزل آخذين الجو الدافئ غطاءاً لهم.

اليوم الأول من العرس قد مرَّ بسلام وسلاسة، لا مشاكل ولا معيبات لعرس نظم نفسه بنفسه بعد أن كنت متخوفاً من عدم قدرة الشاب ابن الخالة على التحكم في أطواره.

غداً سيكون اليوم الثاني من العرس، لكن هو في بيت العريس عبد السلام « الملاكم« .

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *