عبد الله فروات يكتب : الـديـمـقـراطـية الـرقـمـية

د. عبدالإله فروات

نتيجة للفورة المذهلة التي حدثت في تكنولوجيا الاتصال و المعلومات، و الإقبال الهائل لفئات عريضة من الناس عليها، خصوصا ضمن صفوف الشباب، و اعتبارا لكونها فرصت نفسها كوسيلة رئيسية للتواصل الاجتماعي و السياسي، انبثقت عبارات من قبيل الديمقراطية الالكترونية أو الرقمية و ديمقراطية الأنترنت و الفرد الشبكي و الهيئات السياسية الكترونية والتنشئة الرقمية ، إلى غيرها من التعبيرات التي برزت في هذا المجال.

ويحيل مفهوم الديمقراطية الرقمية إلى استخدام التكنولوجيا المعلوماتية و الإعلامية الحديثة و آليات الاتصال الرقمية قصد توليد المعلومات المرتبطة بتداول و نشر الديمقراطية، وتجميعها و توصيفها و تصنيفها و تمحيصها و تحليلها و كذا بثها، سواء في شقها الثقافي أوالمؤسساتي أو في بعدها المتصل بالممارسة اليومية .وفي هذا الصدد، نشير إلى أن الديمقراطية الرقمية تتمظهر في أشكال متعددة منها، على سبيل المثال لا الحصر، التجمعات الافتراضية ومنصات تبادل الأفكار ومنتديات النقاش ومدونات التربية السياسية و استطلاعات الرأي و المواقع إلكترونية للتوعية و التحسيس مرورا بالمناظرات عبر تقنيات التواصل عن بعد وصولا إلى التصويت الإلكتروني و مواقع التوقيعات عن العرائض و غيرها.

والخاصية المشتركة التي تميز هذه الآليات هي سرعتها في الانتشار و التداول و كفاءتها و مردوديتها التي لا تتطلب كلفة باهظة وتحررها من الإجراءات الإدارية المعقدة و البطيئة. ولا بأس أن نذكر أن هذه التكنولوجيات كانت لها القدرة على إيصال الشكاوى والدعوات إلى الإنخراط أو المقاطعة و كذا تنظيم مظاهرات ووقفات احتجاجية معتمدة على رسائل البريد الإلكتروني و المجموعات الإلكترونية الموسعة، علاوة على شبكات التواصل الاجتماعي و التلفزيون الرقمي إلى غير ذلك من الأساليب التي اتسعت لتشمل أيضا الحملات الانتخابية و القرب من الناخبين و تشبيك العلاقات المتبادلة بين هيئات المجتمع المدني سواء داخل القطر الواحد أو على الصعيد العالمي.

لقد تمخض عن هذا الوضع، الذي ألمحنا إليه، بروز الاهتمام بالخلفية
التكنولوجية للنظم السياسية وانعكاس التطور في بنية تكنولوجيا الاتصال والمعلومات على مردودية وأداء النظام السياسي لمهامه ووظائفه، ونوعية العلاقة التي تجمع المواطن بالدولة، إضافة إلى كيفية بلورة المفاهيم والممارسات السياسية. وغني عن البيان أن تتأثر أساليب المشاركة الديمقراطية وآلياتها وسبل التنشئة والتعبئة السياسية بالتطور التكنولوجي وأساليب الاتصال.

وكان لتسخير المبتكرات الاتصالية في عملية الاتصال السياسي الفضل في الرفع من قدرة النخبة على الوصول إلى شرائح واسعة من المواطنين وأطياف مختلفة من المجتمع والتأثير فيهم من جهة، وكذا قدرة الأفراد على تبادل الاتصال وتكثيفه فيما بينهم وتجميع أنفسهم للتعبير عن حاجياتهم ومصالحهم من جهة أخرى.

وبالتبع، انتقلت السياسة في أحد أبعادها لتصطف في سجل العملية الاتصالية، وبدا واضحا تأثير أدوات الاتصال المتاحة في عمليات صنع السياسات وإنتاج القرارات واتخاذ المواقف، حيث يتطلب كل منها التواصل مع شرائح واسعة من الأفراد على مستوى النخبة والمواطنين. وبالدلالة عينها يمكن النظر إلى الاستحقاقات الانتخابية والتنافس الحزبي والحركات الاجتماعية من منظور اتصالي محض.

لقد ألقى هذا التطور بظلاله على الممارسة الديمقراطية، وتولدت من رحمه أساليب وممارسات جديدة، في المشاركة والتقاسم والتشاور تمنح للأفراد دورا أكبر في التعبير وإبداء الرأي، تمتح أفكارها من موجة الانتقادات الموجهة على مدى سنين طويلة إلى الديمقراطية التمثيلية والنيابية التي اختزلت دور المواطنين في التصويت إبان الانتخابات مرة كل عدة سنوات، ومن الدعوة إلى انبعاث التقاليد الديمقراطية الأثينية (نسبة إلى مدينة أثينا الاغريقية) التي اعتمدت كنواة صلبة في فلسفتها على المشاركة المباشرة للمواطنين.

لقد تكاثفت عدة عناصر لتمكن وسائل الاتصال الجديدة من القدرة على تحقيق الانسيابية والتدفق السريع للأفكار والمعلومات، وتقليل الحيز الزمني الفاصل بين حدوث الخبر وبثه، والنقل المباشر والفوري للأحداث والوقائع، مما أدى إلى تراجع احتكار السلطات الحكومية للمعلومات والأخبار، وتحول الحقل الالكتروني إلى مجال افتراضي ديمقراطي يتسع لجميع المبادرات والآراء والاجتهادات، كما يوفر الإطار الملائم للتفاعل بينها، إلى درجة أن الحكومات لم يعد بمقدورها التصدي أو منع هذا التفاعل، بل لم تعد لها القدرة أحيانا حتى على التقليل من تأثيراته على المتلقين له.

إن هذا التغير العميق في أدوار وسائل الإعلام والاتصال جاء نتيجة لتغير المناخ النفسي العام كما كان سببا في حدوثه، مما ساعد على الرفع من درجة موقع هذه الوسائل ضمن سلم الحاجيات الحياتية الأساسية للمواطن.

تغير المناخ النفسي وموازين القوى السياسية

تؤثر الخصائص التي تميز العالم الإلكتروني في بيئة الممارسة الديمقراطية، مما يؤدي إلى تغير المناخ النفسي للمجتمع وإفراز نمط جديد للعلاقة بين الفرد والدولة أو السلطة عموما، وواجهة أخرى يراهن عليها هذا الفرد في مشاركته السياسية تنبني على مفهوم الحرية الالكترونية وحقوق الانسان الرقمية، مما مهد لإطلاق دينامية تتيح للفرد تحطيم الحواجز النفسية وتحرير قدراته لإبداء الرأي والتعبير عن مواقفه ومعتقداته بتنويع قنوات تواصله وتفاعله مع الآخرين، ناهيك عن تفاوضه لبناء تحالفات وائتلافات واكتساب تجارب ومهارات وتبادل الخبرات بين ذوي الاهتمامات المشتركة، ليولد تلازم هذه العوامل وتظافرها قوة ناعمة تساهم في ترجيح كفة المواطن، وتصب في خانة الرفع من مستوى الممارسة الديمقراطية.

وفي ظل ما سبق يجوز القول بأن العالم الإلكتروني شكل عنصرا حاسما في إعادة توزيع موارد القوى السياسية في المجتمع، ومنح فرصا وإمكانات لفاعلين لم تكن فيما مضى متاحة لهم، أو كانت في أحسن تقدير من الماينبغيات، فكانت المحصلة تغيير التوازن السياسي لفائدة الأفراد والجماعات التي تشغل قدراتها المثلى في توظيف التكنولوجيا الجديدة وتبتكر في أساليب استخدامها، وهذه الفئات عادة ما تنتمي للمعارضة بمنظورها الواسع أو القوى الحية الاحتجاجية، خصوصا وسط الشباب المتنورين الذين يكونون قد عانوا سابقا من وطأة ضعف الإمكانيات والموارد في مواجهة نظم السلطة الحاكمة. وهكذا بدأنا نرى ظهور مبادرات ومشاريع منها على الخصوص ممارسة صحافة المواطن المستقلة والصحافة الالكترونية والصحافة البديلة التي ركزت اهتمامها على قضايا الحياة المعيشية اليومية للناس ومآسيهم ومعاناتهم… وكان من نتائج ذلك أن غيرت تكنولوجيا الاتصال الحديثة من نوعية وحجم التفاعلات في المجال العمومي السياسي وأدوار الفاعلين والهيئات الاجتماعية والسياسية.

ومن الملاحظ أن التراكم المتسارع للتطورات التكنولوجية أدى أيضا إلى إسقاط إرث الخوف وهاجس التوجس لدى الأفراد من السلطات الحاكمة، وتوفير آلية تسعف في التعبير عن الرأي وطرح للنقاش الموضوعات المسكوت عنها في الخطابات السياسية الرسمية والتحايل على قيود المجال العام، والالتفاف على توسع الهوة بين الإحساس بمعانقة الحرية في العالم الافتراضي وضغوطات ورتابة العالم الواقعي. وليس من سبيل المصادفة إذن أن وفرت منصات التواصل الاجتماعي الأرضية التكنولوجية لفرض واقع سياسي جديد يسخر هذه الشبكات لتخطي الحدود التي كرستها الأنظمة السلطوية، مما عبد الطريق لبروز حركات اجتماعية الالكترونية.

ومن المعلوم أن تكنولوجيا الاتصالات الالكترونية مثلما وسعت دائرة الفرص الديمقراطية أمام المستضعفين والمحرومين أفرادا وجماعات، لتأمين حرية تعبيرهم وتنظيمهم وتفاعلهم وتنزيل أنشطتهم من المجال الافتراضي إلى نظيره الواقعي، فإنها بالمنطق نفسه فتحت الباب في وجه القوى المؤيدة للأنظمة الحاكمة لاستعمال الأساليب عينها في ممارسات قد تتغيا تضييق الخناق على الحريات وتشتيت الرأي العام وتمييعه وتضبيعه أو التخفيف من ضغوطاته ، غير أنه جرت العادة أن تكون الغلبة دائما للقوى المطالبة بالتغيير والإصلاح والحركات الاجتماعية الرقمية، وذلك بحكم طبيعة تكنولوجيا الاتصال التي ترتكز على التطوع والجاهزية الذاتية واستعدادية الأفراد للمبادرة، مما يجعل تسخيرها يميل لصالح الحركات الشعبية المحتضنة لأعداد متنوعة ومتعددة من الجماهير خاصة فئة الشباب الذين تجمعهم وتلهب حماسهم الرغبة في التغيير والتطور، وذلك مقارنة بطرق اشتغال الأجهزة التقليدية من حيث تخطيطها وتنفيذها لأنشطتها التي غالبا ما يطبعها الروتين الإداري الرسمي وحركيته البطيئة.

تقاطع العالمين الافتراضي والواقعي

دأب الباحثون على مناقشة العلاقة التي تربط بين العالمين الالكتروني /الافتراضي والحقيقي/ الواقعي، كما درجوا على التساؤل عن مدى تأثير مخرجات العالم الافتراضي على العالم الواقعي، أم ان اللجوء إلى العالم الافتراضي لا يعدو أن يكون مجرد هروب من قيود العالم الحقيقي وتعقيداته ليس إلا، أم هو بمنزلة تمرد جيلي حماسي، عاطفي ووجداني لشرائح من الشباب. في هذا الصدد، يبدو أن أحداثا كثيرة قطرية وعالمية حسمت الإجابة عن هذه الإشكاليات، فنجاح العديد من الحركات الاحتجاجية في تدبير حراكات وانتفاضات من نقلها من العالم الافتراضي إلى الواقعي، مستندة على أشكال مختلفة من التعبئة الجماعية والطاقة الإيجابية والفعل المباشر والفعال، يغنينا عن الخوض في تفاصيل اضحت معروفة لدى الجميع.

وفي ضوء ما سبق، نستنتج أن الديمقراطية الرقمية، وفرت آلية فعالة وسهلة وفي متناول الجميع للممارسة الديمقراطية المباشرة ولاسترداد بعض مقوماتها وقيمها الأساسية مثل الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، وظهور الإرهاصات الأولية لقلب الهرم التراتبي الاجتماعي، وذلك بعد فترة تراجع فيها دور الأفراد ومكانتهم في الحياة السياسية لحساب المؤسسات والنخب وجماعات المصالح الضيقة، وكذا الهيآت التي تدور في فلك السلطات المحتكرة للحكم، الأمر الذي أشار إليه العديد من الباحثين والمهتمين ومفاده أن شبكة الأنترنت أفرزت بديلا لا يستهان به، يتجلى في الديمقراطية الرقمية التي إذا أحسن استغلالها ستمثل منعطفا تاريخيا في تجاوز عيوب ممارسة الديمقراطية التمثيلية وتخطي أزمتها، التي تتجلى بالخصوص في انحصار المشاركة الشعبية ونقص المعلومات المتاحة للمواطنين وإقصائهم من حق الاسهام في اختيار وإعداد وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية.