عبد الناصر.. إمامُ المغضوبِ عليهم!

محمد أحمد فؤاد

يُستدلُّ على نباهة الرجل من القدماء، بتبايُن الناسِ فيه.

وردت هذه العبارة في كتاب الحيوان للجاحظ، ولا أعرف هل يجوز أنْ نستدلَّ بها على (نباهةٍ) تُنسَب لعبد الناصر المثير للجدل أم لا؛ فهذه العبارة تعرض -بلا شكٍّ- إحدى البدائه، ولا سيَّما أنها قيلت في زمانٍ قديمٍ، كثرت فيه الفِتَن والحروب، وشاع فيه انقسامُ الناسِ حول أي زعيم أو عالم دين أو شاعر، إلى مشايعين ومناوئين؛ ومتى وُجِد التعصُّب، فليس إلى الحقيقةِ من سبيل! ومن الطبيعي ألا يتباين الناس حول رجل خامل الذكر، لم يفعل ما يستحق الحمد أو الذم، وأمضى حياته متجنِّبًا للقضايا الخلافية، والمواقف التي يُمتحن فيها حِلمُ الرجلِ وحكمتُه.

لهذه الأسباب، لا أستطيع أن أتكئ على هذه العبارة غير الدقيقة، في تقييم تجربة عبد الناصر، الذي لا أستطيع أن أنسب إليه (النباهة)، لمجرَّد أنَّه ظهر في مرحلةٍ تاريخيةٍ مضطربةٍ، وأنَّ الناس اختلفوا فيه، وأجحد كل الكوارث التي ألحقها بالسياسة المصرية، والتي لا نزال إلى اليوم نعاني آثارَها.

ويطيب لي أن أستعير في حديثي عن عبد الناصر قولَ الناقد العربي القديم (المفضَّل الضَّبِّيّ) حين أراد أن يتحدَّث عن (حماد الراوية). قال المفضَّل:
قد سُلِّطَ على الشِّعر من (حمَّاد الراوية) ما أفسدَه، فلا يصلح أبدًا.

وهذا أدق ما يمكن أن نصف به ما أحدثه عبد الناصر بمصر. لقد أفسد مصر إفسادًا، لا تصلح بعده أبدًا!

أعلم جيِّدًا أنَّ هذه العبارة السابقة جِدُّ كافيةٍ لأن تتسع أفواه الذي اتخذوا عبد الناصر لهم إمامًا، من الناصريين ومؤيدي حكم الضباط، لتمتلئ بعباراتٍ رنانةٍ من مثل: (الداعم الأكبر لحركات التحرُّر الوطني) – (مشروع السد العالي)- (مروِّع إسرائيل)- (بطل التأميم)- (أمير الفقراء)… إلى آخر هذه الكلمات الفضفاضة ملتبسة الدلالة، التي يرى جوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير)، أنها أفضل وسيلة لاستلاب عقول الناس، والتعمية على الغرض الحقيقي لِمَن يهيجهم!

نرشح لك: مراجعة في “سيكولوچية الجماهير” لـغوستاف لوبون
لكنَّ هذه الحُجَج متهافتة، ولا سيما حين نقيِّم تجربة عبد الناصر، وما تلاها من سنوات حكم الضباط التي امتدَّت حتى هذا العصر، والتي ثبت لنا فشلُها على جميع الأصعدة، ولم تزد مصر إلا تقزُّمًا، وأصبحنا -لوطأتها- من التافهين!

وأعتقد أنَّ إحالة القارئ لكتاب (عودة الوعي) لتوفيق الحكيم، و(تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة)، كافيةٌ لتبيان أسباب فشل التجربة الناصرية. وهي لا تخرج عن ثلاثة محاور:

أولًا: إحياء التراث المملوكي في الحكم والإدارة
يستطيع المتأمِّل في تاريخ دولتي المماليك (البحرية والبرجية)، وإدارتهم لمصر التي امتدَّت حتى أثناء الاحتلال العثماني، أن الغرض الأهم لحكم المماليك هو البقاء والاستمرار. لا يهتم حكامهم بمصر إلا بالقدر الذي يضمن لهم دوام حكمهم. لا يدافعون عن البلاد ضدَّ الصليبيين وغيرهم من المعتدين إلا ليظلوا في سُدَّة الحكم. وحتَّى المناقب والإصلاحات المحدودة التي يقومون بها، لا يكون الهدف منها إلا استمالة قلوب المحكومين، بتحقيق الحدِّ الأدنى من متطلبات الحياة؛ فلا شك في أنك لكي تظل (حاكمًا) لـ (دولة)، يجب أن تظل هناك (دولة)، فلا بد من تحاشي سقوطها في براثن الفوضى.

أما عن سلوك المماليك في الحكم والإدارة، فلا يخرج عمَّا نشهده الآن في مصر المعاصرة. البقاء للأقوى، والأوفر أتباعًا، والأقدر على التخلُّص من خصومه والتنكيل بهم، والتودُّد لمن فوقه في تراتبية الحكم، حتى تسنح فرصة التخلص منه، والحفاظ دائمًا على وجود عدو دنيء (قابل للقمع)، لكي يصبح دائمًا فزَّاعةً للمحكومين. وقد كان ذلك العدو في أيام دولة المماليك، هو (العُربان)، الذين ثاروا وقُمِعوا عشرات المرات إبَّان حكمهم؛ واستنتاج (فزَّاعة) حكم الضباط ليس عسيرًا!

اتَّبع عبد الناصر هذه الآليات، واستطاع عن طريقها أن يثبت قواعدَ حكمه، وأن يمهِّد الطريق للمملوك الذي سيحكم من بعده، بحيث تتحوَّل مؤسسة الحكم في مصر إلى (طلسم)، لا يستطيع أنْ ينفذ إلى دلالته إلا الضباط فقط! أصبحت الطبقة الجديدة التي استحدثها عبد الناصر، هي الفصيل الوحيد الذي يحق له أن يحكم مصر، ويقدر على هذا الأمر، دون اعتبارٍ لكفاءةٍ أو لرؤيةٍ. الاعتبارُ الوحيدُ، هو القدرة على فك الطلسم (المملوكي) الذي وضعه عبد الناصر على عرش مصر، والذي لا يقدر أن يتعامل معه إلا من ينتمي إلى نفس طائفته المملوكية!

ثانيًا: الاستبداد
لا خلاف على أنَّ فن السياسة، يقتضي مهارةً في التفاوض وإعمال الحُجَّة والإقناع والاستمالة وإقامة التحالفات ومراعاة توازنات القوى وجمع الناس على مواضع الاتفاق. فماذا إن كانت الحُجَّةُ ضعيفةً عند السياسي، وكانت مهاراته محدودة؟ لا بد وأن يلجأ إلى الاستبداد والقمع إن أراد أنْ يستتبَّ له الحكم! وهذا ما فعله المماليك. استجدُّوا أساليب في التعذيب والإعدام، لا نزال إلى اليوم نرتجف من تخيُّلها. التوسيط والخوزقة والذبح وسمل العيون وقطع الألسنة، وغير أولئك من الأمور الشنيعة التي وطَّدوا بها حكمهم. وهذا ما لجأ إليه عبد الناصر ومن أعقبه في حكم مصر من مماليك العصر الحديث. ولا نزال إلى اليوم نتذكر ما كان يحدث في سجون عبد الناصر من تعذيب وانتهاكات، حوَّلت الناس في عهده إلى دُمًى مروَّعةٍ لا حول لها ولا قوة. ولمَّا كان خلفاؤه على نهجه في البطش، استمرَّ خضوع الشعب وصمته على انفراد الضباط بمقدَّرات الوطن!

ثالثًا: تزييف الوعي
لنا أن نستحيي اليومَ من ممارسات إعلام عبد الناصر (التي نلمُس أصداءَها للأسف في إعلام هذه الأيام)، والتي خلقتْ منه امرءًا فوق البشر، لا يخطئ أبدًا، كليَّ العلم، محرِّكًا لا يتحرَّك، نصف إلـٰه. زُيِّف الوعي المصري والعربي لحساب مشروعٍ دَجَلِيٍّ توسُّعيٍّ يُدعى القومية العربية، أراد به عبد الناصر استغفال العرب بطريقةٍ طفوليةٍ لا حنكة فيها ولا دهاء! والغريب أنَّ تزييفَ الوعي أعدى النخبَ المصريةَ آنذاك، فأصبح توفيق الحكيم بُوقًا، وعبد الوهاب بُوقًا، وعبد الحليم بُوقًا وأم كلثوم بُوقًا. انتشى الناسُ بالوهمِ، وخافوا عذابَ السجون، فرَكِنُوا إلى التهاويم الناصرية، وطَرِبوا لها، واستلذُّوا بالدورانِ في فلكِها، فأخذتْهم النكسةُ وهم غافلون!

لكن توفيق الحكيم استفاق بعد وفاة عبد الناصر (ولا أرى أنَّ في هذا مروءةً ولا شجاعةً)، وأصدر كتاب (عودة الوعي)، الذي فصَّل أبعاد الكارثة الناصرية التي لا نزال نعاني تبعاتها إلى اليوم.

إن جمال عبد الناصر – إمام المغضوب عليهم من المستبدِّين وفاقدي الرؤية، وعشاق الطنطنة الفارغة، والظواهر الصوتية غير المجدية، الذين كلَّما نضِجَتْ جلود مخازيهم وبَلِيَتْ، استبدلوا بها جلودًا أخرى، يخطُّون عليها هزائمَ جديدةً، وانتصاراتٍ زائفةً، وأوهامًا فاضحةً – استحقَّ بجدارةٍ انتقامَ نجيب محفوظ من تجربته الفاشلة، في روايته العظيمة (الحرافيش). جعل (عاشور الناجي) رمزًا لعبد الناصر! هل تعلمون كيف كان عاشور الناجي؟ كان لقيطًا (فاقدًا للشرعية)، وعربجيًّا (جاهلًا لا يملك رؤية)، وفتوة (لا يفهم إلا منطق القوة والبطش)!

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *