يبدو أن السردية الحكومية حول ما يُسمى بـ”معجزة” التغطية الصحية الشاملة تتهاوى أمام معطيات الواقع، التي كشف عنها أحمد رضى شامي، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، خلال المنتدى البرلماني الدولي التاسع للعدالة الاجتماعية، حيث رغم كل الخطابات الرسمية التي تُروج لنجاح مشروع تعميم الحماية الاجتماعية، فإن الأرقام والتحديات التي تم الكشف عنها تؤكد أن هناك فجوة كبيرة بين ما يُعلن عنه وما يعيشه المواطن المغربي على أرض الواقع.
واحدة من أبرز الإشكالات التي كشف عنها شامي هي أن أكثر من 8 ملايين مغربي ما زالوا خارج منظومة التأمين الإجباري عن المرض، إما بسبب عدم تسجيلهم أو بسبب وضعهم في خانة “الحقوق المغلقة”، التي تشمل حوالي 3.5 مليون شخص، إذ أن هذه الأرقام تضع المشروع الحكومي في موضع تساؤل، حيث من غير المعقول التحدث عن تعميم التغطية الصحية في وقت لا تزال فيه نسبة كبيرة من المواطنين محرومة من أبسط حقوقها الصحية.
إلى جانب ذلك، فإن التكاليف التي يتحملها المواطن المغربي للحصول على الخدمات الصحية لا تزال مرتفعة بشكل غير مقبول، إذ تصل نسبة المصاريف التي يدفعها المؤمنون إلى 50% من إجمالي النفقات الصحية، وهي نسبة تفوق بكثير السقف الذي توصي به المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، والذي لا ينبغي أن يتجاوز 25%، حيث أن هذه الأرقام تعكس واقعًا مريرًا، حيث يضطر العديد من المواطنين إلى التراجع عن طلب العلاجات الضرورية بسبب عدم قدرتهم على تحمل التكاليف، مما يجعل حقهم في الصحة رهينًا بقدرتهم الشرائية بدلًا من كونه حقًا مكفولًا للجميع.
وفي ظل هذه المعطيات، تبرز معضلة أخرى تتعلق بالاستدامة المالية لنظام التأمين الصحي، حيث تعاني بعض الأنظمة من عجز مالي خطير، مثل نظام “أمو – العمال غير الأجراء” و”أمو – القطاع العام”. هذا العجز ينعكس مباشرة على تأخر تعويض المؤمنين ويؤثر سلبًا على جودة الخدمات الصحية المقدمة، مما يزيد من تفاقم الأزمة بدلًا من حلها، إذ أن النظام الذي يُفترض أن يُشكل ركيزة الحماية الاجتماعية أصبح في حد ذاته مهددًا بانهيار مالي يفرض مراجعة جذرية لآليات تمويله.
وإلى جانب المشكلات المالية، كشف شامي عن انحياز واضح في توزيع نفقات التأمين الصحي، حيث يذهب معظمها إلى القطاع الخاص على حساب القطاع العام، حيث تتراوح نسبة هذه النفقات بين 84% و97% بالنسبة للأجراء وغير الأجراء، بينما لا تتجاوز 57% في نظام “أمو – تضامن”، حيث أن هذا التفاوت يعكس ضعف العرض الصحي العمومي الذي لم يعد قادرًا على استيعاب احتياجات المواطنين، ما يضطرهم إلى اللجوء إلى المصحات الخاصة، التي تتسم بتكاليف مرتفعة وتفاوتات غير مقبولة في الأسعار والخدمات.
ولا تقتصر الهوة بين القطاعين العام والخاص فقط على التمويل، بل تشمل أيضًا الفروقات الصارخة في تكاليف العلاج، حيث تصل تكلفة ملف صحي واحد في القطاع الخاص إلى خمسة أضعاف نظيرتها في القطاع العام، وهو الوضع الذي يزيد من الأعباء المالية على المواطنين، خاصة في ظل غياب بروتوكولات علاجية موحدة تضمن الحد الأدنى من الشفافية في التسعير، مما يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى في المنظومة الصحية.
وفيما يتعلق بالدعم الاجتماعي المباشر، فإن التحديات لا تتوقف عند حدود التمويل، بل تمتد إلى دقة استهداف الفئات المستحقة، حيث لا يزال هناك ارتباك واضح في التحقق من صحة المعطيات المقدمة من طرف المستفيدين، مما يؤدي إلى خلل في توزيع الدعم وعدم تحقيق الأهداف المنشودة. إن استدامة هذا النوع من البرامج رهين بقدرة الحكومة على وضع آليات دقيقة وفعالة لاستهداف الفئات الأكثر احتياجًا بدلًا من الاعتماد على أنظمة إدارية غير محكمة.
أما أنظمة التقاعد، فهي الأخرى تواجه خطر الانهيار بسبب الضغوط الديموغرافية، حيث يؤكد شامي أن تراجع معدلات الولادة وارتفاع متوسط العمر يزيدان من الأعباء المالية على هذه الأنظمة، ما يستدعي إصلاحات جوهرية تضمن استدامتها، حيث إن استمرار العمل وفق النموذج الحالي يعني الدخول في أزمة حتمية خلال السنوات المقبلة، حيث سيصبح من المستحيل تغطية التزامات التقاعد دون تدخل عاجل لإعادة هيكلة الأنظمة المعتمدة.
وفي ظل كل هذه التحديات، يصبح من الصعب الحديث عن نجاح مشروع الحماية الاجتماعية بالصورة المثالية التي تحاول الحكومة رسمها. فالأرقام لا تكذب، والواقع الميداني يفرض نفسه بقوة، ما يستدعي مراجعة عميقة وشاملة للسياسات المتبعة، بدلًا من الاكتفاء بالترويج لإنجازات غير مكتملة. المغرب بحاجة إلى إصلاح حقيقي لا يقوم فقط على توسيع دائرة المستفيدين من التغطية الصحية، بل على ضمان جودتها واستدامتها، لأن الحق في الصحة لا يجب أن يكون مجرد شعار، بل حقيقة ملموسة يعيشها كل مواطن، بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو قدرته المالية.