بقلم: د. عبد النبي عيدودي نائب برلماني؛ باحث في الشؤون الدينية والسياسية؛ مدير المركز المغربي للقيم والحداثة؛ دكتور في القانون الدستوري وعلم السياسة؛ دكتوراه في العقيدة و مثارة الاديان السماوية
ها هي حكومة السيد أخنوش، ثلاثية الأضلاع، تُــطفئ الشمعة المائة من عمرها. وكلُّ غيورٍ على البلد لا يمكن إلاَّ أن يكون قد تمنى لها عمراً مُفعماً بالحصيلة الإيجابية، وليس “الحَــصلَــة”.
إنها حكومةٌ وعدت، وأتخمت بالوعود، وأحزابُ أغلبيتها الثلاثة عاهدت الشعب المغربي على الإنجاز والفعالية وإبداع الحلول. وخلقت بذلك انتظاراتٍ واسعةً وعريضةً وطويلة لدى الجميع. وعدت بالنمو الاقتصادي، بإنعاش ودعم المقاولة؛ بالتشغيل؛ بإصلاح التعليم والصحة؛ وبإقرار الدولة الاجتماعية، ومحاربة الفقر والهشاشة؛ وبتعزيز الديموقراطية… وعدت ووعدت ثم وعدت… والواقع كَشَّاف…والأيام تمر سريعةً كالبرق الخاطف… والتاريخ لا يرحم، وعين الرأي العام المتيقظة لا تنام… والحقيقة لا يمكن صباغتها بمساحيق بعضٍ من العُلَبِ الإعلامية واللُّعب التواصلية.
هذه الحكومة، التي حظيت بثقة البرلمان بعد ثقة صناديق اقتراع الثامن من شتنبر 2021، تَحَجَّجَتْ في بداياتها الأولى بغياب الأداة المالية مُتجسِّدَةً في القانون المالي. وصبرت عليها الفئاتُ العريضة من شعبنا الواعي ذي الانتظارات والحاجيات الملحة والمستعجلة، وهو الشعبُ الذي يُدركُ أن لكل وافدٍ جديدٍ ولكل بدايةٍ دهشة.
ثم جاء التصريح الحكومة مليئاً بالبشائر ورافِعاً لسقف الوعود. وَعَبَّرْنَا في حينه على الاتفاق والإيجاب إزاء طموحاتٍ ونوايا وأمانٍ وتطلعاتٍ عسلية ووردية، مع علمنا اليقين بافتقاد البرنامج الحكومي للواقعية وللإمكانيات المالية اللازمة…وللتواضع السياسي المطلوب، بالخصوص في حالات الأزمة والصعوبات…. ومع ذلك، لم يكن بوسعنا أن نرفع من درجة وَحِدَّةِ المعارضة منذ البداية، حتى لا يقول مُغْرِضٌ إننا مجرد متحاملين أو مُزايِدِين. والله أعلم بما في الصدور… وما في العقول.
ها نحن اليوم إذن نطوي مائة يوم من عمركِ أَيَــا حكومتنا التي انتظرنا مبادراتك وتحركاتك وإجراءاتكِ وقراراتكِ…على أحر من الجمر… لكن هيهات، فلم يتحقق شيءٌ يُذكر، ونحن الذين علمتنا التجاربُ الديموقراطية المقارنة أن المائة يوم الأولى من عمرِ أي حكومة لا بد وأن تتميز بتدابير قوية، مدروسة وذات دلالات رمزية، لإعلان القطيعة وإبراز نية العمل والإصلاح، ولإظهار التوجهات الأساسية … ولتهدئة الرأي العام… ولطمأنة عالَم المال والأعمال والمقاولة… لا شيء من ذلك كان… سوى أمريْنِ اثنين في غاية الأهمية: غلاء الأسعار وتسقيف الأعمار.
وفي ما يلي، سنعرض عشر ملاحظات، بكل موضوعية وأمانة، تحت الرقابة والأضواء الكاشفة للرأي العام:
1/ ارتفع منسوبُ اكتواء المواطن من جَرّاءِ غلاء الأسعار، وتقوَّضَتِ القدرةُ الشرائية للمغاربة قاطبة، مُستضعفيهم كما طبقتهم المتوسطة. واكتفت الحكومة بتبرير الزيادات في الأسعار بظروف السوق الدولية! فما هو دوركِ يا حكومتنا الموقرة إذا لم تكن لك القدرة على مواجهة تقلبات السوق اللعينة؟! حصيلة ثقيلة من الزيادات في 100 يوم حاصرت الحكومة، ولحدود اليوم لا جواب.
2/ في التعليم، كان جميعُ المغاربة يحزمون حقائبهم استعداداً لرحلة ممتعة وموعودة نحو إصلاح التعليم. وإذا بسَــيِّــدَتِــي الحكومةُ تقرر تسقيف الأعمار مُعتمدةً 30 سنة لولوج مهنة التعليم، من دون سابق إنذار ولا إعذار، ولا تفسير ولا دراسة ولا تمحيص، وكأنَّ الجودة مرتبطة بالسن! أين عناصر الإصلاح الواردة في النموذج التنموي وفي الرؤية الاستراتيجية؟ أكُلُّ شيء تبخر؟ واعَجَبِي من هكذا فلسفةٍ في الإصلاح! صدقوني: سنظل نتذكر دوماً هذه الحكومة بأنها حكومة تسقيف الأعمار. وفي التعليم دائماً، سجلنا التراجع عن تنفيذ مقتضيات القانون الإطار 11/57 للتربية والتكوين، وغياب مصادر تمويله، والتنصل من جميع البرامج التي جاء بها هذا القانون المُصادَق عليه من قِبَلِ البرلمان في يوليوز 2019 بعد معركة طويلة مع البيجيدي.
3/ في الإصلاح الضريبي: يتذكر الجميع خلاصات المناظرة الوطنية حول الجبايات في ماي 2019، ويتذكر الجميع مصادقة برلماننا على القانون الإطار رقم 69/19 المتعلق بالإصلاح الجبائي. وقد كان من البديهي جدا أن تبدأ الحكومة الحالية، ولو بشكلٍ رمزي، في تجسيد فلسفة هذا الإصلاح الذي انتظره المغاربة لعقود طويلة… طويلة جدا. للأسف، لم تفعل الحكومة أي شيء بهذا الصدد. فلا تخفيف ضريبي على الطبقة المتوسطة، ولا تقييم للإعفاءات الضريبية السخية، ولا استعمال للأداة الضريبية من أجل تحفيز المقاولات الجادة والمسؤولة، ولا إجراءات لمحاربة التملص والغش الضريبيين…. ولا هم يحزنون. فكم حاجة قضتها الحكومة بتركها!
4/ تواصل الحكومة وسياستها الإعلامية: معلومٌ أن أكبر فرق بين حكومة تكنوقراطية وحكومة سياسية هو أن هذه الأخيرة يتعين أن تتوفر على نساء ورجال لهم امتدادات شعبية تُمكِّــنُهم من استقراء نبض الشارع والإنصات لآلام وآمال الناس، مع امتلاك القدرة على ملء الساحة بالنقاش والإقناع والدفاع عن القرارات والخيارات…. فهل بانت بوادرٌ من ذلك في هذه الحكومة؟ لا أعتقد… فالصمت هو سيد الموقف. وإذا كانت حكومتنا تظن أن اللقاء الأسبوعي للناطق باسمها كافيا، فهي ليس مخطئة فحسب، ولكنها عمياء بكل تأكيد. والظاهر أنَّ هناك غياباً تاما لسياسة إعلامية تواصلية لدى الحكومة، حتى أن عديداً من المنابر ممنوعة حتى من نشر الاعلانات الإدارية. أما دعمُ الصحافة، فذلك أمرٌ مُستبعدٌ حتى من مجرد التفكير فيه.
5/ الصحة: قالت أحزابُ الأغلبية الحكومية في برامجها إن الصحة أولوية، وقال الجميع: حسناً، لا نُجادل. ثم جاءنا السيد الوزيرُ ليقول لنا إنَّ سد الخصاص في القطاع يتطلب ربع قرن! طيب، سيدي الوزير، سننتظر، نحن سكان القرى والدواوير وهوامش المدن…. سننتظرك قرناً من الزمن لكي نتعالج. ولتذهب انتظاراتنا إلى الجحيم، وليذهب مرضانا إلى القبور…. ولتذهب وعود حكومتك إلى…. متاحف التاريخ…التاريخ الذي لا يرحم.
لقد سجلنا، أيضا، خلال هذه المائة يوم العجيبة ارتباكاً حكوميا في التعاطي مع الخصاص المهول للأطباء بالمستشفيات والمستوصفات، وغياباً لرؤية حقيقية تعجل بفتح الباب للطبيب الأجنبي… كما شاهد الجميعُ كيف فرضت الحكومةُ جواز التلقيح، بين عشية وضحاها، دون إخبار ولا شرح ولا تشاورٍ ولا إقناع… فتعطلت مصالح المواطنين، واحتقن الوضعُ لِمَا يربو عن شهر، وتظاهر الطلاب والتلاميذ، وأضرب المحامون… وتسببت الحكومة في تشنجٍ مجاني في خلال 100 يومٍ الأولى من حياتها مثلما لم تسبقها إلى ذلك أيَّةُ حكومة أخرى في التاريخ المغربي.
6/ الإسكان والتجهيز والماء
يقتضي التقييم الموضوعي الإقرارُ بأنَّ السيدة فاطمة الزهراء المنصوري وزيرة الإسكان، والسيد نزار بركة وزير التجهيز والماء، هما الوزيران اللذان يعرفان جيداً تضاريس وحجم الإشكالات بالقطاعين اللذين يشرفان عليهما. وعليه، يمكننا الاعترافُ بالحصيلة الإيجابية لهما خلال 100 يوم، من خلال ما قدماه من تصورات ومقترحات ومبادرات. وسنتابع عن كثب تطور الإنجاز في هذين القطاعين بكثير من التفاؤل المنطقي.
7/ في الملف الحقوقي: لم يتحرك هذا الملف طيلة 100 يوم من عمر هذه الحكومة التي أعلنت أنها “حكومة حقوقية”. ووزيرها في العدل الذي طالما تشدَّقَ بضرورة الانفراج وإطلاق سراح معتقلي الحراك، يا ليته لاذ بالصمت عند العجز، ولكنه برَّرَ في كل مرةٍ عجزه بأعذارٍ أكبر من الزلات…. وعوض أن يفتح النقاش الواسع حول فلسفة القانون الجنائي والحريات الفردية والجماعية وحقوق المرأة والطفل والأسرة، والإجهاض، والاغتصاب، والعقوبات البديلة، والمسطرة الجنائية، ومراجعة تنظيم مهنة المحاماة، وغيرها من القضايا الحارقة… ها هو يكتفي بالحديث عن بنايات المحاكم، وعن الجوارب… فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
8/ الثقافة والرياضة: لا تُخطئُ عينُ المتتبع للأداء الحكومي كَــوْنَ القطاعين الرياضي والثقافي لازالا لم يبرحا مكانهما، ولم تتمكن الحكومة إلى حدود 100 يوم من بلورة سياسية وتوجهات واعدة لهذين القطاعين، باستثناء مبادرة فريدة يقوم بها الشاب الوديع المهدي بنسعيد وزير الثقافة المحترم.
9/ الدبلوماسية والعلاقات الخارجية: نسجل بكل اعتزاز قوة وصرامة وحزم الدبلوماسية المغربية، تحت الإشراف والتوجيه المباشريْــن لجلالة الملك، في إحباط مناورات كل من يتربص بالوحدة الترابية المقدسة لبلادنا. كما نعتز بتنويع علاقاتِ بلادنا، وبقدرتها الكبيرة على الدفاع عن سيادية قراراتها واستقلالية خياراتها. ونفتخر بمكانة بلادنا المستحقة بين الأمم. وليس من المغالاة القول إن المغرب صار رقما صعباً ونِـــدًّا شَــرِساً في المعادلة الدولية، وليس القارية والإقليمية فقط.
10/ في الشأن الديني: نسجل استمرار وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية في التنزيل السليم والهادئ والرصين للرؤية الملكية لإعادة هيكلة الحقل الديني المغربي وفق الثوابت الدينية الأربعة: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني وإمارة المؤمنين.
خلاصة القول: إن أردنا التوصيف والتحقيق والتدقيق في الحصيلة الحكومية خلال 100 يوم، فيمكننا الجزم بأنها حصيلة مُحبِطة، شكلية، مرتبكة، عنوانها الأقوال الخالية من الأفعال… حصيلة تحتاج الى مراجعاتٍ سياسية عميقة لمعظم ما هو مرسوم لقطاعاتٍ حيوية تساهم في إنعاش القدرة الشرائية للمواطن وإرجاع الثقة إليه… ولعل القادم من مئات الأيام المقبلة… خير.
والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده.