بقلم: مصطفى الفن
خلقت صور الملك محمد السادس، وهو يتجول في شوارع باريس رفقه ابنيه الأمير مولاي الحسن والأميرة للا خديجة، الحدث رقم واحد في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي..
بل إن هذه الصور للملك الأب رفقة ابنيه زرعت، أمس، بعض الاطمئنان الجماعي وسط المغاربة خاصة بعد أن ظهر جلالته بدون عكاز طبي وفي وضع صحي جيد..
وطبيعي أن يحصل هذا ليس فقط لأن الأمر يتعلق بالشخصية رقم واحد في الهرم المؤسساتي للبلد..
ولكن أيضا لما يمثله الملك من رمزية ومن مكانة دستورية ودينية ومن وضع اعتباري خاص له صلة حتى بأمن البلد نفسه..
كما أن نشر هذه الصور الملكية، التي تفاعل معها الناس إيجابا وبطريقة غير تقليدية، وضع ربما حدًا لهذا القيل والقال ولهذه الإشاعات حول غياب الملك وحول أسفار الملك وحول عطل الملك..
كما أن افتعال هذا النقاش حول غياب الملك وأسفاره لا يخلو من بعض سوء النية وربما حتى من بعض الابتزاز أيضا والذي “تزعمه”، في وقت سابق، جزء من الصحافة الأجنبية مثلما حدث في واقعة الصحافيين الفرنسيين إريك لوران وكاترين غراسييه..
وهذا معناه أن هذا “الجدل” حول عطل الملك وأسفاره هو نقاش قديم وليس طارئا جديدا يكتشفه المغاربة لأول مرة..
لكن الجديد اليوم هو أن أطرافا كثيرة دخلت على الخط في هذا النقاش بمن في ذلك بعض “اليوتوبرات” من مغاربة الخارج..
حصل هذا حتى أن سجينا من مغاربة الداخل أطلق الله سراحه ذهب بعيدا في “تكييف” الأسفار والعطل الملكية وكاد أن يقول ما يشبه هذا “الحمق”:
“الملك تخلى عن الحكم”..
وطبعا لا بد من التذكير في هذا المنحى بأن الصحافة الإسبانية كانت أول من أثار علنا هذا النقاش “الملغوم” و”المسموم” حول الأسفار والعطل الملكية للعاهل المغربي..
حدث هذا قبل أكثر من سبع سنوات ربما..
أي عندما نشر الصحافي الإسباني إنياسيو سامبريرو مقالة بمتن “مضلل” قال فيه “إن ملك المغرب يقضي أكثر من 45 في المائة من وقته في عطل خارج البلاد”.
وظني أن القارئ البسيط لهذا الكلام سينتابه الشك..
وربما قد يعتقد أيضا أن بلادنا تسير بلا حاكم وبلا مؤسسات وأن كل شيء يتوقف عن العمل عندما يسافر الملك..
كما أن القارئ لهذا الكلام سيخيل إليه أن رأس السلطة مشغول بقضايا أخرى غير قضايا بلده ومشغول بهموم أخرى غير هموم الوطن.
وهذا هو “التضليل” بلحمه وشحمه..
وكم هو مؤسف أن يصدر مثل هذا “التضليل” الإعلامي عن صحافيين أجانب يقدمون أنفسهم كمتخصصين وكخبراء استراتيجيين في الشأن المغربي..
وقع كل هذا الذي وقع رغم أن البعض من هؤلاء الصحافيين الأجانب حاوروا الملك محمد السادس وألفوا كتبا حول المغرب وحول ملك المغرب.
ويبدو أن هؤلاء الصحافيين الأجانب المهتمين بوطننا وبشؤوننا الداخلية لازالوا لم يفهموا بعد أن المغرب الذي يكتبون عنه لا يمكن أن يعرفوه جيدا مثلما يعرفه صحافيوه المغاربة ومثقفوه المغاربة وكتابه المغاربة..
بل ومثلما يعرفه حتى مواطنوه المغاربة من بسطاء الشعب..
والواقع أنه ولى ذلك الزمن “غير الجميل” الذي كانت فيه أخبار المغرب وأخبار صناع القرار في المغرب حكرا على وسائل إعلام أجنبية وعلى صحافيين أجانب معروفين لدى الخاص والعام..
نعم لقد ولى ذلك الزمن إلى غير رجعة..
لماذا؟
بكل بساطة لأنه صار اليوم بإمكان كل المغاربة والصحافيين المغاربة أن يعرفوا “تقريبا” كل شيء عن ملكهم وعن صحة ملكهم وحتى عن كبار المسؤولين المغاربة..
بل إن الديوان الملكي نفسه كثيرا ما عمم بلاغات حول بعض العمليات الجراحية التي أجراها جلالته مثله مثل أي إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وتجري عليه سنن الله في الخلق..
وفعلا لم تعد ثمة أسرار حصرية أو أسرار ذات حساسية خاصة عن بلدنا لا يمكن أن يعلم بها إلا الصحافيون الأجانب..
والمؤكد منه أن معظم ما تنشره الصحافة الأجنبية عن المغرب وعن الملكية في المغرب ليس سوى معلومات وأخبار كلها “مسلوخة” أو منقولة “حرفيا” من الصحافة المغربية..
وكل ما يفعله هذا الجزء من الصحافة الأجنبية هو أنه يلجأ إلى تقنية “إعادة” التدوير والنسخ والعجن لكل ما هو مغربي قبل أن يخرجه في شكل “مقالات جنيسة” لا تسلط الأضواء إلا على وجه واحد من العملة..
ولعل ما نشرته الصحافة المغربية، بمختلف عناوينها كصحف “ميديا تروست” (لوجورنال والصحيفة) ومعها “تيل كيل” و”نيشان” و”الأيام” والمساء و”كود” و”أخبار اليوم” و”الأخبار” وحتى الصحف الحزبية حول الملك والملكية في المغرب..
نعم لعل ما نشرته صحافتنا المغربية بكل هذه العناوين يفوق، على مستوى الرصانة والقيمة الإخبارية والتحليلية، ما نشرته جميع الصحف الأجنبية في هذا الموضوع..
لكن الهدف غير المعلن لبعض الصحافيين الأجانب وغيرهم من هذا الجدل حول أسفار الملك كان شيئا آخر طالما أن المغرب سيظل دائما، في نظرهم، مجرد حديقة خلفية للبلدان التي استعمرته في وقت سابق..
وظني أن عطل الملك وأسفاره الخاصة ليست سرا من أسرار الدولة أو سبقا صحفيا نشاهده لأول مرة على “اليوتوب” أو نقرأه لأول مرة في الصحافة الأجنبية سواء كانت إسبانية أو غير إسبانية..
ويكفى أن نذكر بأن ملك البلاد نفسه لا يخفي أسفاره ولا عطله..
بل إنه كثيرا ما يوثقها هو شخصيا عبر صور و”سيلفيات” يلتقطها مع أناس مغاربة وغير مغاربة ليتداولوها في صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن هناك من يفضل، وربما بنوايا غير سليمة، أن يمتهن “الخلط” و”التغليط” أيضا..
وربما لهذا السبب بالتحديد، فإن هذا “البعض” لا يركز على الأهم..
والأهم هو أن “أسلوب” الملك محمد السادس في إدارة شؤون الحكم هو غير “أسلوب” والده الراحل الحسن الثاني..
و”الرجل هو الأسلوب”، بتعبير الراحل الحسن الثاني نفسه..
كما أن أسفار الملك وعطله ليست مناسبات للاستجمام والراحة والترفيه كما يتوهم البعض..
وأنا أستبعد أن يكون هؤلاء الصحافيون الأجانب المختصون في الشأن المغربي على غير علم بأن أكبر ملفات المغرب وجدت طريقها إلى الحل في مثل هذه الأسفار الملكية الخاصة..
فماذا يعني هذا كله؟
هذا معناه أن الملك يمارس وظيفة الحكم حتى مع وجود برتوكول متعب وصارم وغير متسامح مع أي مسؤول في هرم الدولة.
وبالتبع، فوظيفة إدارة الحكم لا تعرف عطلا أو إجازات أو أعيادا أو أيام سبت أو أيام أحد التي قد يقطع فيها الملك صلته بمشاكل الوطن وإكراهاته وهمومه وتحدياته.
أبدًا..
والثابت أن الملك ليس له توقيت إداري لأنه يشتغل في ما هو استراتيجي وفي ما هو “ماكرو” طول الوقت وبحسب ما تقتضيه المصلحة العليا للبلد.
أكثر من هذا، فالملك، بحسب مصادر تحدثت إلى موقع “آذار”، لا يكتفي فقط بقراءة ما يقدم إليه من تقارير أمنية أو غير أمنية في هذا الملف أو ذاك..
بل قد يحدث أن يتصل هو شخصيا بوزير أو بمسؤول سام أو غير سام أو بمدير عام أو حتى بمسؤول جماعي ليسأل عن ملف أو ليعرف أين وصلت الأشغال في مشروع ما.
بمعنى أن هذه القضية المتعلقة بأسفار الملك وعطله هي ليست قضية على الإطلاق، ولو أن البعض أرادها أن تكون كذلك لأسباب لا يعلمها ربما إلا الراسخون في “علم” الابتزاز..
ثم إن الملك في المغرب ليس موظفا أو شخصية عمومية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه في أوربا وأمريكا حتى نتحدث عن عطله وأسفاره الخاصة أو العامة.
الملك في المغرب له وضع ديني روحي وأخلاقي وتحكيمي حتى قبل مجيء الدستور..
والملك في المغرب هو مسؤول عن مواطنيه وعن بلده أينما كان زمنا ومكانا لأن الأمور بمقاصدها وليست بقشورها..
وهذه القشور هي التي تتحدث عنها بعض الصحافة الأجنبية..
لكنها تنسى أو تتناسى المقاصد وما تراه كحقائق على الأرض من مؤسسات تشتغل ليل نهار وبلا توقف في بلد آمن ومطمئن..
وبالطبع دون أن يعني هذا أننا راضون تمام الرضا أو أننا وصلنا إلى سدرة المنتهى في كل شيء لأن الكمال لله وحده..