هاشتاغ _ الرباط
في الذكرى 81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، خرج حزب الاستقلال ليعيد تقديم نفسه كواجهة رقمية براقة تخفي خلفها فراغاً سياسياً مخزياً. مهرجان خطابي احتضنته الدار البيضاء، مليء بالكلمات الرنانة التي تتحدث عن “العقد الاجتماعي المتقدم” و”المناضلين الرقميين”، في محاولة بائسة لتلميع صورة حزب فقد جذوره، وفقد معناه، ولم يبق منه سوى كيان مترهل يتنفس بشعارات لا تؤمن بها حتى قياداته.
رحم الله علال الفاسي وامحمد بوستة وعبد الكريم غلاب. أولئك العمالقة الذين قادوا حزباً كان مدرسة للنضال، ومصنعاً للفكر الوطني الذي قاوم الاستعمار وبنى الكرامة المغربية حجراً فوق حجر. لو كانوا أحياء اليوم، لرأوا كيف تحوّل حزبهم من رمز للسيادة الوطنية إلى دمية سياسية تُحرَّك بخيوط المؤثرين الرقميين الذين لا صلة لهم بالنضال ولا بالواقع. هؤلاء المؤثرون، الذين باتوا مجرد أدوات في يد القيادات الفاشلة، هم الوجه الجديد للانحدار السياسي: وجوه تُسوَّق على المنصات الاجتماعية وكأنها البديل للمشروع الوطني، في حين أنهم مجرد واجهات لبيع خطاب تافه لا يخدم سوى الطموحات الشخصية للمتحكمين في المشهد.
نزار بركة وقف على المنصة متحدثاً عن “مناضلين رقميين”، وكأن الترويج الرقمي سينقذ حزباً يعاني من شيخوخة مميتة. ولكن السؤال الحقيقي: أي مناضلين رقميين؟ هل هم أولئك الذين جُلبوا ليزيّنوا واجهة الحزب على إنستغرام ويوتيوب؟ أم هم المؤثرون الذين تم انتقاؤهم بعناية لتكرار خطاب مُعلَّب يُخفي فشل الحزب في بناء مشروع حقيقي؟ هؤلاء المؤثرون ليسوا إلا نسخة حديثة من أدوات الدعاية القديمة: ألسنة مأجورة تروّج لوهم، وتبيع خطاباً سطحياً لا يمت لواقع الشباب المغربي بصلة.
الشباب المغربي، الذي يواجه البطالة، والتهميش، وانعدام الأفق، لا يحتاج إلى مؤثر يرقص على منصات التواصل الاجتماعي، ولا إلى من ينقل صورته المعدلة بفلاتر براقة. يحتاج إلى من يُصغي لصوته الحقيقي، إلى أحزاب تفتح له الأبواب لا تغلقها في وجهه. يحتاج إلى قيادات تؤمن به كشريك في القرار، لا كوسيلة انتخابية تُستخدم حين تقترب الصناديق. لكن حزب الاستقلال، وغيره من الأحزاب التي تعيش على أطلال الماضي، لا يرى في الشباب سوى مادة للدعاية، وأرقاماً تضاف إلى سجلات الناخبين.
الأكثر إثارة للسخرية أن هذا المهرجان الذي يحمل شعار الشباب، لم يكن فيه شباب. كان حفلاً مغلقاً للنخبة السياسية المترهلة، لشيوخ الحزب وأعيانه، وأبناء القيادات الذين وُرثوا المناصب كما تُورَّث الأراضي والعقارات. في هذا المشهد البائس، يحاول الحزب أن يبيع وهم الانفتاح الرقمي، في حين أن الحقيقة واضحة: حزب يخاف من التجديد، يخاف من الشباب، ويخاف من كل ما يهدد استمرارية سيطرة طبقته التقليدية على المشهد السياسي.
ثم يأتي الحديث عن “العقد الاجتماعي المتقدم”، الذي يبدو وكأنه مصطلح مستورد من دليل دعاية حزبي فاقد للخيال. أي عقد اجتماعي هذا الذي يُصاغ دون مشاركة حقيقية؟ من سيضعه؟ نفس القيادات التي قضت سنوات وهي تُدير ظهرها لمطالب الشباب؟ نفس الحزب الذي لم يتذكر شبيبته إلا عندما اقتربت الانتخابات؟ هذا العقد ليس إلا ورقة أخرى تُضاف إلى أرشيف الوعود التي أُطلقت في كل موسم انتخابي دون أن ترى النور.
حزب الاستقلال، الذي كان يوماً رمزاً للنضال الوطني، بات اليوم نموذجاً للجمود السياسي والانتهازية الانتخابية. هذا الحزب الذي أسّسه رجال الفكر والنضال، أصبح الآن أداة بيد جيل من القيادات التي تعيش على وهم التحكم في مجتمع يتغير بسرعة. ولكنه وهم لن يدوم. شباب المغرب أذكى من أن يُخدع بالمؤثرين الرقميين وبالشعارات الجوفاء. هذا الجيل يرى الحقيقة: حزب الاستقلال، كما هو الآن، ليس سوى مؤسسة مترهلة تحاول النجاة في زمن لا مكان فيه للجمود.
إذا أراد حزب الاستقلال أن ينجو من الموت السياسي، فعليه أن يبدأ بثورة داخلية. عليه أن يُعيد للشباب مكانتهم الحقيقية، لا أن يستخدمهم كواجهة دعائية. عليه أن يتخلى عن تلك الوجوه الشاحبة التي ترفض أن تترك مكانها لجيل جديد. وإلا، فإن هذا الحزب، الذي كان يوماً مدرسة للنضال، سينتهي كدرس في التاريخ، يُقرأ في الكتب، لكنه لن يُكتب في المستقبل.
ورحم الله علال الفاسي ورفاقه، الذين كانوا يبنون الأحلام. أما اليوم، فإن الحزب الذي تركوه لنا قد تحول إلى مسخ سياسي يُحاول تغطية شيخوخته بفلاتر رقمية. لكن الحقيقة واضحة، حتى تحت أجمل الفلاتر: حزب مات سريرياً، ينتظر من يعلن وفاته.