ربما لا يعرف الكثيرون أن في التاريخ العربي والإسلامي بعض الملحدين والمتشككين في الأديان السماوية. فالتاريخ الرسمي اهتم بتوثيق الأحداث ليظهر أن تاريخ الدول الإسلامية هو تاريخ للإيمان، بينما تجاهل المؤرخون حيناً المتشككين وأهملوا جوانب من كتاباتهم في أحيان أخرى.
يحاول عبد الرحمن بدوي في كتابه “تاريخ الإلحاد في الإسلام” تجميع أخبارهم وأفكارهم، من مصادر عدة، وهو الأمر الذي يخرج عن نطاق الدفاع عنهم أو الهجوم عليهم، إلى محاولة التوثيق لهم باعتبارهم جزءاً من هذه الحضارة الغنية، أثروا فيها وتأثروا بها، وكونوا حراكاً داخلها تأثر به حتى المدافعون عن الدين أنفسهم من شيوخ الدين والمتكلمين واضطرتهم إلى تطوير أدواتهم حتى تتناسب بقدر الإمكان مع العلم الحديث والفلسفة الوافدة وروح العصر، مما وقع في مصلحة العامة وأثرى حضارتهم.
والإلحاد الذي يقصده عبد الرحمن بدوي يختلف عن الإلحاد بمعناه المعروف أي إنكار الذات الإلهية، وهو يحاول تمييز حركة الإلحاد لدينا عن تلك التي حدثت في الغرب، فبينما سعى الملحدون هناك إلى هدم الفكرة الأساسية التي يقوم عليها التدين عندهم وهي وجود الإله، قصد الملحدون في تاريخنا إلى التشكيك في فكرة النبوة وهدمها، على اعتبار أن التدين في الشرق كان قائماً على هذه الفكرة في الأساس.
فما الذي دفع هؤلاء إلى انتقاد الأديان عامة حتى لم يسلم منهم معتقد من المعتقدات الشرقية؟ وما هي اعتراضاتهم عليها؟ في ما يلي أهم أفكارهم دون التعرض لمدى صحتها أو بطلانها. لعلّ ابن الراوندي الذي شكك في النبوة، وأنكر الديانات السماوية وانتقد القرآن الكريم والسنة النبوية بإسلوب لاذع، هو أشهر الملحدين في تاريخ الإسلام، خاصةً أن آراءه وصلت إلينا من خلال عرضها في كتب هدف مؤلفوها إلى دحضها. وقد أفردنا له موضوعاً خاصاً في رصيف22.
ابن المقفع
لم يكن ابن المقفع ملحدًا بمعنى إنكار وجود الإله والبعث والقيامة، وتقريباً كل ما ينسب إليه في هذا الإطار مدون في فصل من كتاب “كليلة ودمنة” الذي قام بترجمته بنفسه عن الفارسية إلى العربية، وهو الفصل الذي يعرف بباب “برزويه كما ترجمه الوزير بزرجمهر بن خلكان” وتدور معظم الشكوك حول أن ابن المقفع كتبه بنفسه ونسبه للكتاب حتى يخفي فيه أفكاره المتشككة في الأديان.
وينقل عن الخليفة المهدي (158- 169هـ) قوله بأنه لا توجد زندقة إلا ولها أصل في هذا الباب الذي كتبه ابن المقفع، وهو الفصل نفسه الذي أدى لاتهامه بالزندقة (أو لمكيدة سياسية) وتقطيع أوصاله وشواء أعضائه على النار أمام عينيه حتى مات.
وفي أحد مقاطع هذا الباب يحكي ابن المقفع عن رحلة برزويه مع الأديان، فهو يشكك أولاً في صحة الدين الذي ورثه عن أبائه ثم يحاول أن يجد مطلبه في غيره، إلى أن ينكر على أهل كل دين أنهم يتحزبون لإيمانهم الذي ولدوا عليه وورثوه عن أبائهم دون تفكير في صحة هذا المعتقد من عدمه، علاوة على ذلك أن أصحاب الديانات المختلفة يتنابذون فيما بينهم ويدعي كل منهم صحة معتقده وبهتان معتقد الآخرين، ولما أعمل عقله لم يجد في أي منها ما يدعو للتسليم به دون غيره، ويتوصل في النهاية إلى أن يكتفي بحسن الخلق مع الناس ورد الأذى عنهم.
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي
ربما يكون للحديث عن فلسفة الرازي هنا مجال أكثر من سرد إنجازاته في الطب والكيمياء، وأهم ما له في ذلك كتابان هما “في العلم الإلهي” و”مخاريق النبوة”، لكن معظم ما وصل إلينا منهما ورد في كتب الذين ردوا على أقواله.
وكان الرازي لا يؤمن بالنبوة ويأخذ على عاتقه إثبات التناقض في الكتب المقدسة بداية من التوراة إلى الإنجيل والقرآن، ثم ما يلبث أن يوجه طعنه إلى بقية الديانات الشرقية كالزرادشتيه والمانوية.
رأيه أنه ما دام الله قد منحنا العقل وميزنا به عن سائر خلقه وهيأ له القدرة على اكتشاف الخير والشر، فما حاجة الإنسان لنبي يعلمه الشرائع والأخلاق، ثم أن لعقل الإنسان قدرة أيضاً على معرفه الخالق من خلال النظر في خلقه فلا حاجة لإرسال نبي يعلم الناس طريق الله.
ثم يحاول أن يدفع الاعتراضات على كلامه من عدة جوانب، أولها أن الأولَى بحكمة الله وعدله اللذين يؤمن بهما أصحاب الديانات، أن يساوي بين خلقه في القدرة على معرفة الخير والشر، وأن الله إذا ميز بعضهم بهذه الموهبة عن البعض الآخر يكون قد زرع بينهم الشقاق، وهو ما نراه يحدث بين أصحاب المذاهب المختلفة من القتال والنزاع وإراقة الدماء.
وبرأيه إن المسؤول عن ذلك ليس الضعف أو قلة الفهم عند أبناء المعتقدات، إنما خلل في نظرية النبوة نفسها، فالأنبياء في رأيه يبشرون بشرائع وأفكار غير قابلة للجدال والنقاش باعتبارها قادمة من السماء وتحيط بها هالة من التقديس، وهو يرى أن الكثير مما أتى به الأنبياء يخالف الطبيعة الإنسانية والسلام بين بني البشر، بالإضافة إلى ادعاء كل دين استئثاره بالحقيقة منفرداً، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال للشقاق والسجال بين أطراف تتجاذب الحقيقة.
وثانياً: يقول إن أصحاب الأديان يرون أن الناس مراتب وفُضل بعضهم على بعض، ومنهم من يمتاز عن البقية بالعلم، وإذا كان ذلك كذلك فحري بالأنبياء الذين هم أشرف الخلق بأن يمتازوا على الجميع؛ لكن الرازي يرى أن ذلك ليس دليلاً على النبوة، فالناس من وجهة نظره متساوون في القدرة على المعرفة ولا يميز أحدهم عن الآخر إلا الاجتهاد في تحصيلها والقابلية النفسية لإعمال الذهن.
ثالثاً: إن الأنبياء يختلفون فيما بينهم في نواحٍ كثيرة فمنهم من يُؤلِّه المسيح ومنهم من يراه بشراً عادياً ومنهم من يراه زنديقاً كاليهود، ويتساءل كيف لله أن يبعث للناس برسائل متناقضة كل التناقض، وفي الأخير: لا يرى الرازي مبرراً لأن نعلل إيمان معظم البشر بالنبوة كدليل على صدقها، فالناس إما يسلمون بما ورثوه ويتكاسلون عن التحقيق فيه ثم يسلمون به لاعتيادهم عليه ويتحول المعتقد بمرور الأجيال إلى ما يشبه الطبيعة والغريزة في هؤلاء الناس، أو أنهم يخافون بطش رجال الدين والسلطان بهم، أو ينخدعون في المظهر البراق للدعاة والمبشرين والوعاظ، أي أن كثرة العدد ليست دليلاً على صدق المذهب.
وبعض الانتقادات التي يوجهها الرازي للكتب المقدسة نجدها مثلاً في اعتراضه على ما ورد في التوراة عن إصدار الله أوامره لليهود بالقتل وإباحة دماء الشعوب الأخرى، وعلى تشبيههم للذات الإلهية بشخص يحب رائحة شواء اللحم والذبائح وبعجوز أشيب الشعر، وهو ما يناقض تأكيد النبي موسى على أن الله قديم غير مصنوع ولا مؤلف ولا تنفعه المنافع ولا تضره المضار، ثم يعترض على ما جاء في الإنجيل عن المسيح أنه قال “ما جئت لأنقد الناموس بل لأكمله” – قاصدًا بهذا توراة النبي موسى – ثم يقوم المسيح بإلغاء معظم شرائع الناموس من تقديس السبت والأخذ بالثأر وما إلى ذلك، وهو بذلك يحاول إثبات تناقض الإنجيل، ولا يكتفي بهذا فيهاجم عقيدة التثليث والتوحيد في المسيحية باعتبارها غير متسقة ومتناقضة.
ثم يوجه طعنه للقرآن الكريم على اعتبار ما يراه من تشبيه وتجسيم للذات الإلهية في آيات مثل “الرحمن على العرش استوى”، و قوله “ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية”.
وأنكر الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم أيضاً، ورد السؤال التعجيزي المعتاد “إذا كنتم تنكرون إعجاز القرآن فهل لكم أن تأتوا بمثله؟” بسؤال آخر وهو: هل لكم أن تأتوا بمثلما كتب بطليموس وجالينوس؟ وما أراد قوله هو عدم قدرة أي شخص على الإتيان بمثل ما كتبه شخص آخر لأن الأسلوب اللغوي يشبه البصمة ويختلف باختلاف المتحدث.
ويرى عبد الرحمن بدوي أن الرازي لم يولِ بالاً للاجتهادات التي قام بها مشايخ المعتزلة لتأويل هذه الآيات على اعتبار أن لها معنى داخلياً غير معناها الظاهر ينفي عنها التجسيم والتشبيه، فيما يرى الرازي أنها مجرد محاولة من المعتزلة لإنقاذ الموقف، ويزيد على ذلك بأن ينتقد تواتر الروايات عن الرسول في أحاديثه الشريفة، ويدفع بأنه لو سقط شخص من ضمن سلسلة الرواة الطويلة عن النبي نتيجة لذلة أو نسيان، فإن الرواية تسقط بدورها، وهو يرى أن ذلك تسبب بتناقض الروايات النبوية ومن ثم يعفي نفسه من الأخذ بالأحاديث الشريفة جملة.
أبو علاء المعري
يوصف بأنه شاعر العقل في تاريخ الأدب العربي، عُرف عنه إعلاؤه لقيمة العقل فوق العادة والتقاليد وثقته في قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر دون الحاجة للدين.
ومما كتبه:
يرتجي الناس أن يقوم إمام/ ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى الـ/ عقل مشيراً في صبحه والمساء
إنما هذه المذاهب أسبا/ بٌ لجذب الدنيا إلى الرؤساء
كما ذهب إلى إنكار الكتب السماوية:
دين وكفر وأنباء تقص وفر/ قان وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها/ فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟
ويبدو أنه قد تقلب في مراحل كثيرة بين الشك والإيمان. كذلك، لم يشكك في وجود الله ودائماً ما تحدث عن نعمه وصفاته. ويذكر طه حسين في كتابه “مع أبي العلاء في سجنه” أن المعري كان يسلم بوجود الله ويتحدث عنه بلسان العابد الزاهد الصادق في عبادته.
جابر بن حيان
كان جابر بن حيان كيميائياً بارعاً، ويذكر عبد الرحمن بدوي نقلاً عن المستشرق “كروس” أنه أضاف الكثير إلى الكيمياء اليونانية واتبع منهجاً علمياً يضاهي ذلك الذي ابتدعه العلماء المحدثون في أوروبا، وبناءً على إنجازاته في هذا المجال وصل إلى درجة الاعتقاد في مقدرة الكيمياء على تخليق ما يشبه الكائنات الحية والإنسان، الأمر الذي يذكرنا بالمحاولات الحديثة الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وهو أمر قد وضعه عند الناس في طائفة الزنادقة والملحدين.
الشعراء المُجان
ربما لا نجد في شعر هؤلاء الذين أطلق عليهم المُجَّان – نسبة للمجون واللهو – من الشعراء والذين عاشوا في ظل الخلافة الثانية للدولة العباسية، وجهة نظر فكرية واضحة تجاه الأديان، وكان على رأس هؤلاء أبو نواس ومعظم ما ورد عنهم من أدب كان يصب في اتجاه الاستهانة بالأوامر الدينية وربط السعادة الإنسانية بالأمور الأرضية لا بالروحانيات والتصورات السماوية.