بقلم علي بنستيتو
مصرفي عهد مبارك.. (6)
في 4 مايو 1994، احتضنت القاهرة مراسيم التوقيع على ما عرف آنذاك، بـ”اتفاق”غزة-أريحا” أو “اتفاق القاهرة”، الذي جاء في سياق تنفيذ اتفاق “أوسلو”، الشهير، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكان الهدف منه تحديد وتوضيح ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني على أرض الواقع، في الضفة الغربية وقطاع غزة، كمرحلة انتقالية.
اتفقت الأطراف الراعية لعملية السلام على أن تكون مراسيم التوقيع على هذا الاتفاق، بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وإسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل حينئذ، في حفل رسمي، تم الترتيب له ليجري أمام عدسات كاميرات التليفزيون وممثلي وسائل الإعلام الدولية بحضور عشرات الصحفيين والمراسلين العرب والأجانب، وكنت من بينهم، ممثلا للوكالة. وكان الهدف من ذلك، بالنسبة لمصر، إبراز الدور الذي تلعبه القاهرة والرئيس حسني مبارك شخصيا، في الدفع بعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. ولذلك لم يكن صدفة أن يقترن تاريخ التوقيع مع عيد ميلاد مبارك.
ألحقت بهذا الاتفاق مجموعة من الخرائط، التي توضح الأجزاء التي سينسحب منها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة ومنطقة أريحا في الضفة الغربية، لتصبح تابعة، نظريا على الأقل، للسلطة الفلسطينية الوليدة، التي جاء بها اتفاق أوسلو.
نحن الآن في إحدى القاعات الكبرى بقصر المؤتمرات بمصر الجديدة، شرق القاهرة. كان حاضرا على المنصة الرسمية، لحظات قبيل عملية التوقيع، العديد من الشخصيات البارزة والضيوف، من بينهم، بالإضافة إلى مبارك وعرفات ورابين وشيمون بيريز، وزير الخارجية الأمريكي، وارن كريستوفر ونظيره الروسي أندريه كوزيرف، ومحمود عباس (الرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية).
عندما جاءت لحظة التوقيع، رفض عرفات وضع توقيعه على الخرائط المرفقة بالاتفاق، كونها، حسب ما اتضح فيما بعد، كانت تتضمن خدعا إسرائيلية، انتبه لها عرفات ومساعدوه في آخر لحظة. لاحظ رابين تردد عرفات ورفضه التوقيع على الخرائط، فمال جهة بيريز للتشاور معه، قبل أن يتحدث مع مبارك. سادت المنصة حالة من الارتباك والتوتر، قبل أن يتبين للحاضرين وممثلي وسائل الإعلام أن عرفات كان يرفض الإمضاء على الخرائط.
بقي الزعيم الفلسطيني لأكثر من 20 دقيقة متمسكا بموقفه الرافض للتوقيع، وسط الهمسات والنظرات الحائرة والحرج الشديد للشخصيات الواقفة على المنصة، دون أن يدرك الإعلاميون في البداية، السبب وراء تردد عرفات وارتباكه، إلى أن تقدم الرئيس المصري نحوه بضع خطوات وانخرط في الحديث معه، بينما ظهرت على ملامح وجهه وحركات يديه علامات الغضب، قبل أن يصرخ في وجهه أمام الجميع وبصوت مسموع: “وقع يا كلب”، أو “يا ابن الكلب”.
وحسب ما تداولته وسائل الإعلام فور هذا المشهد السريالي، فإن عرفات، الذي كان يتقن توظيف الإشارات وتمثيل بعض الأدوار الرمزية للتعبير عن بعض مواقفه، التي قد لا يرغب في الإعلان عنها صراحة، كان هدفه من التردد (وليس الرفض) في التوقيع على تلك الوثائق، هو لفت الانتباه إلى ما يتعرض له من ضغوط، وما يواجهه من مناورات إسرائيلية، لدفعه إلى التنازل عن الحقوق الفلسطينية. ولكن في الأخير، أمام غضبة مبارك وشدة الحرج الذي كان يشعر به المشرفون على حفل التوقيع، لم يجد عرفات بدا من التوقيع على الخرائط المرفقة بالاتفاق كما هي.
وسبق لشيمون بيريز أن تحدث عن هذه الواقعة عبر فيديو موجود على “اليوتوب” https://www.youtube.com/watch?v=cIX2TsAV68Q
قبل أن أختم هذه الحلقات أو في عجالة الإشارة إلى أن العلاقات المغربية المصري، في عهد مبارك، كانت في واقع الأمر تتأرجح صعودا وهبوطا حسب تقلبات الظروف السياسية. ولم تستطع الإرادة السياسية التي أبداها الجانبان على مستوى القمة، والزيارات المتبادلة بين رئيسي الدولتين، إعطاء أي زخم أو مضمون حقيقي للتعاون الثنائي في مختلف المجالات. وعلى المستوى الدبلوماسي، وعلى الرغم من النوايا الحسن المعبر عنها في مناسبات عدة، كان موقف القاهرة من القضية الوطنية، قضية الصحراء، متذبذبا ويكتنفه نوع من الغموض والحياد السلبي، متأثرا في ذلك بالضغوط الجزائرية، فكانت القاهرة مثلا، تتساهل في دخول عناصر “البولساريو” إلى مصر ومشاركتهم في مختلف اللقاءات والندوات التي كانت تحتضنها العاصمة المصري، فينتهزونها فرصة لتسويق المواقف المعادية للمغرب والدعاية لأطروحتهم الانفصالية، مما كان يعكر بين الفينة والأخرى أجواء العلاقات بين البلدين ويخلق توترات وأزمات دبلوماسية مكتومة بينهما.
في نهاية هذه الحلقات، التي حاولت أن أتناول فيها باختصار، بعض الأحداث التي عايشتها خلال فترة عملي بمصر، في عهد الرئيس حسني مبارك، أود أن أوضح أن قصدي لم يكن هو الحكم على عهد مبارك أو تقييم منجزتاته أو تعداد إخفاقاته، بل توخيت من ورائها فقط، تقديم شهادة عن وقائع وأحداث رصدتها بعين الصحفي المتتبع لما كان يجري في هذا البلد وأردت تقاسمها مع الأصدقاء والزملاء الذين يطلعون على هذه الصفحة، والذين أحييهم بالمناسبة، وأعرب لهم عن خالص المودة والتقدير.