بوبكري محمد
يكاد يُجمع المتتبعون للشأن العام في بلادنا على أن القرارات الليبرالية المتوحشة التي اتخذتها الحكومة السابقة هي التي أدت إلى مختلف الاحتجاجات الاجتماعية التي عرفتها بعض الأقاليم والقطاعات، حيث استهدفت تلك القرارات الإجهاز على المكتسبات الاجتماعية للشعب المغربي عبر تحرير الأسعار، ما ساهم في تفقير هذا الأخير وتجهيله… والمثير للاستغراب والدهشة أن تلك القرارات كانت استجابة لإملاءات أجنبية ترمي إلى تحقيق أهداف مالية وسياسية وإستراتيجية في آن واحد.
وإذا كانت المبررات المعلنة لتلك القرارات تصرح علنا بضرورة تقليص النفقات العمومية لدولتنا، فالجهات الخارجية التي أملت تلك الإجراءات والحكومة التي اتخذتها كانتا على علم بأنها ستؤدي لا محالة إلى ما عرفته – وستعرفه – بلادنا من احتجاجات وهزّات اجتماعية يمكن أن تؤدي إلى تفجير الوضع. وَهَذَا ما جعل تلك القرارات محط شك وريبة من قِبل بعض المتتبعين الذين اعتبروها مسّا باستقرار الوطن وتهديدا لوحدته…
ومن القرارات المجحفة التي اتخذتها الحكومة السابقة والحالية استبدال إحداث مناصب مالية قارة بتوظيف المدرسين عن طريق التعاقد مع خريجي الجامعات، وذلك بغية تجنب الزيادة في عدد المدرسين. وقد كشف تطور الحدث أن هذا القرار كان أعمى، إذ اتضح أنه أفضى إلى خسارة مضاعفة: فمن جهة، تمَّ توظيف هؤلاء المدرسين بدون تكوين، ما نجم عنه، في الغالب، ضعف مردوديتهم التدريسية، فكان طبيعيا أن ينخفض تحصيل أبنائنا. ومن جهة أخرى، بحكم تكاثر أعداد هؤلاء المدرسين، فقد أصبحوا ينظمون المسيرات والاعتصامات بمختلف المدن مطالبين بالترسيم، فتحولوا إلى قوة ضغط كبيرة، ما يهدد الاستقرار.
وبذلك، اتضح أن عواقب هذا القرار لم تكن محسوبة من قبل الحكومة السابقة التي سعت من ورائه إلى الحصول على دعم المؤسسات المالية الدولية لكي تتمكن من الاستمرار في التحكم في رقاب الشعب المغربي. وبذلك، فضلت خدمة هذه المؤسسات المالية العامية تلبية على حساب استقرار الشعب المغربي ودولته…
ومن أغرب ما سمعته، في هذا الصدد، تصريح أحد الوزراء إذ قال إنه يعمل على تعميم التوظيف بالتعاقد في جميع الإدارات العمومية بمختلف أطرها، معتبرا أن ذلك سيخفف من النفقات العمومية…. ينبني هذا الكلام على أوهام، حيث يعتقد صاحبه أن المغرب يمتلك الإمكانات الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا… وهذه هي قمة الجهل الذي يمكن أن يعصف بكل شيء ولا يبقي ولا يذر.
وإذا كان هذا الكلام قد صدر عن “وزير”يدَّعي أنه اشتراكي-ديمقراطي، فهو يدل فكرا وممارسة عَلى أن صاحبه موغل في نزعة محافظة ليبرالية متوحشة هدفها ضرب الحق في الحياة عبر إعدام الإنسان. لقد تحدث هذا الوزير باستعلاء وعجرفة مدّعِيا أنه يمتلك قدرة خارقة على إفراغ الوظيفة العمومية من أطرها مستقبلا، لكن موقفه هذا لا يستقيم، لأنه في العمق ضد الدولة والمجتمع معا، إذ كيف يعقل إفراغ الدولة من أطرها؟ وهل توجد دولة بدون أُطر؟ وهل يمكن تصور جهاز دولة بدون حملة شهادات عليا؟ وإذا الأمر كذلك، فمن سيحمي هذه الدولة والمجتمع ويدافع عنهما؟ وكيف ستؤطر الدولة المجتمع وتلبي حاجياته وتقدم له مختلف الخدمات العمومية التي تنهض شرعيتها عليها؟ يبدو لي أن هذا الخطاب يتجه نحو نسف الدولة والإضرار بشرعيتها.
تؤكد دروس ما حدث مؤخرا في الشرق الأوسط أن مثل هذه القرارات اللييرالية المتوحشة هي التي شكلت – إلى جانب الطائفية والقَبَلِية – أرضية خصبة لحدوث ما سُمي ب “الربيع العربي”، الذي يرى هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي”أن آثار التغيير الذي أحدثه ذلك الحراك لم تتضح بعد، وأنه يجب انتظار وقت طويل لتبينها بشكل دقيق. كما يشير إلى أن المحركين الأصليين لذلك الحراك الذين كانوا يدافعون عن القِيَّم لكونية والديمقراطية قد خسروا كل شيء، إذ لم يخرجوا كقوة منتصرة من تلك الانتفاضة التي عمت معظم البلدان العربية.
أظن أن الثورة المعلوماتية قد لعبت دورا كبيرا في ذلك الحراك، حيث استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي أن تنجح في حشد الناس وإخراجهم إلى الساحات العمومية في مظاهرات ضخمة. لكن هذه الوسائل لا تمتلك قدرة على بناء مؤسسات حديثة. لذلك، ليس من السليم أن يزعم بعضهم أن الثورة المعلوماتية قد وضعت حدا للعمل السياسي. فالإنسانُ ما يزال قادرًا على إبداع ممارسات سياسية بشكل مستمر. ومن الجلي أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت على انتشار الشعبوية التي لا تفضي إلى نتيجة بناءة، لأنها تحدث العنف فقط، ولا تمتلك مشروعا ولا بديلا….
يرى هيجل أن العالم يتجه نحو تحقيق غاية محددة تتلخص في فكرة الدولة. ومع أنَّ الفيلسوف كان يعبِّر عن أزمة الدولة الوطنية في ألمانيا، وخلُص في تحليلاته إلى أن التطور الحتمي للشعوب والدول يتجه نحو بناء الدولة الوطنية، فإني أرى أنه ليس للمغرب اختيار آخر غير هذا.