قراءة في كتاب « تطوان سمات وملامح من الحياة الاجتماعية »

بقلم: أنس بنتاويت

تطاون، تلك المدينة الصغيرة في شمال المغرب، البيض دورها والعالية أسوارها، إختزلت في طياتها ما تبقى من الإرث اللامادي الأندلسي، حمله إليها من هُجّروا من غرناطة أواخر القرن الخامس عشر قاصدين عدوة المغرب، حاملين في صدورهم إرثا حضاريا أنار أوروبا في العصور الوسطى، ولقنوه لأبنائهم تلقينا، توارش الأحفاد من بعدهم ليكون نهجهم في مأكلهم ومشربهم، في ملبسهم ولغتهم وحتى في فرحهم ومأتهمهم.

إلا أن هذا الإرث ظل ولسنوات عديدة يتناقله الناس شفهيا دون أن يدركوا أن الذي لا يدوّن قابل للإندثار، وأن المعلوم اليوم يمكن أن يكون مجهولا في قابل الأيام، وأن إنفتاح تطوان في السنوات الأخيرة على محيطها جعل نسقها الإجتماعي يتغير بعدما كان منغلقا على نفسه، خاصة وأن أبنائها ممن خرجوا للدراسة والعمل خارجها، إنصهروا في مجتمعات أخرى وتعودوا على عادات أخرى بل وتزوجوا من عائلات أخرى بعدما كانت زيجاتهم تقتصر على أقاربهم ومعارفهم من أهل تطوان.

هنا جاء دور الأستاذة حسناء داود لتملأ هذا الفراغ بكتابها الصادر مؤخرا « تطوان، سمات وملامح من الحياة الاجتماعية »، حيث جعلت من هذا الكتاب معجما دونت فيه بأسلوب سهل بسيط وبضوابط علمية تجعل منه مصدرا للباحثين دون أن يصاب بالملل غيرهم من القراء، كل مناحي الحياة في المجتمع التطواني، ولأن الحضارات واللغات العريقة وعلى رأسهم العربية، كانت دقيقة في الوصف، غزيرة في المفردات، لم يخل الكتاب من شرح الفروق بين مكونات البيت التطواني، فالبرطال يختلف عن المقعد والصالة ليست كالغرفة إلى ما ذالك من مكونات البيت وأثاثثه وموضعه، كما أن البيوت التطاونية كانت تستحضر في تصميمها الأبعاد الإجتماعية، فكثرة الغرف للحفاظ على لمة الأسرة حتى بعد زواج أبنائها، و المخازن للحفاظ على المؤونة والمطفية لإستغلال مياه الأمطار، والصالة للضيوف والمقعد والبيت الكبير للزيارات والبيت الصغير للأكل، كل مكون له مهمته الخاصة به وقد كان دستورا لا يجب الإخلال به.

ثم إنتقلت بعد ذلك الأستاذة حسناء للحديث عن لهجة تطوان ومدى تأثرها بلهجات أخرى كالأمازيغية والتركية والجزائرية وحتى بعض المصطلحات الإسبانية التي تغلغلت في لهجتنا اليومية في فترة الحماية، دون أن تفقد اللغة هويتها وطابعها ودون أن تستعملها الأسر للحديث مع أبنائها كما هو الحال مع الفرنسية في بعض المدن المغربية الأخرى.

كما ضحضت في سطور هذا المؤلف، كثيرا من الصور النمطية  » ستيريوتايب » التي ألصقت بأهل تطوان، عن علم وعن غير علم، من أنهم بخلاء، جبناء لا عزة في أهلهم، فأوضحت خصائص الكرم والنخوة المتجدرة فيهم، فهم يأبون أن يطعموا ضيفهم من أكلهم اليومي فيحبذون أن يخبروا بمجيئه ليتجهزوا له، هم من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ثم أنهم أهل ذوق فتجد المعسر منهم والموسر على السواء، نظيف المسكن حسن الملبس والهندام شعارهم في ذلك « التاويل غلب التجارة » لا يمد يديه حتى يحسبه الناس غنيا من التعفف، ثم أن أهلها لم يقلوا وطنية ولا غيرة عن غيرهم، فكان المناضل منهم والمتبرع وصانع السلاح، يذودون بأموالهم وأنفسهم لحفظ وطنهم، فكانوا بذلك السباقين في تقديم وثيقة المطالبة بالإستقلال للمستعمر.

ثم عرجت الكاتبة على حرف نساء تطوان وصنائعهم فمنهن من تحفظ القرآن وتعلمه، ومنهن من برعت في الطب وصناعة المراهم وتربية دود القز والخياطة والطرز، كما أن للصواب عندهن قوانين وعبارات محددة، فلا يجوز لهن مثلا قول مبارك مسعود مكان هنية على العرايس أو أن تستبدل إحداهن هنية على راحتك بلاباس عليك، لكل عبارة مكانها وزمانها المحدد.

كما فصلت الكاتبة في عادات أهل تطوان من ملبس يخصص لكل مناسبة وأطباق يختصون بها عن غيرهم موروثة في كثير من الأحيان من المطبخ الأندلسي وبعض عاداتهم في المناسبات الدينية والزواج الذي تطول أيامه وتكثر تكاليفه، مما إضطر بعض العلماء في بداية القرن العشرين لإصدار وثيقة لضبط وتخفيض صوائر الأعراس، ثم ختمت الكتاب ببعض الموروث الذي كانت تنهانا جداتنا عن فعله دون أن ندرك المعنى أو الغاية منه سوى أن يكون « ماشي مليح ».

وأخيرا أختم بالقول أن هذا الكتاب جاء ليوثق الموروث الثقافي الشفهي، دون أن يراود قارؤه أي شك في دقة مافيه، فكاتبتبه بالإضافة لكونها من عائلة عريقة تشبعت بالقواعد التطوانية، هي أيضا سليلة مؤرخ تطوان المرحوم محمد داود، فحق لهذا الكتاب أن يكون في بيت كل تطواني غيور على عاداته وموروثه، يستحضر من خلاله ماض لم يعشه ومستقبلا مسؤول فيه على الحفاظ على بعض ما بين دفتي هذا الكتاب.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *