بقلم: الاستاذ عادل تشكيطو
رئيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان
مدخل إلى النص
حينما ترفع الكاتبة قلمها، فهي لا تكتب بمداد الحبر، بل بدمع التجربة ووجع الذاكرة. نصها ليس مجرد بوح، بل هو سجال بين ذات متألمة وواقع متغطرس، بين أحلام النضال وخيبات الرفاق، بين اليقين والمراجعة القاسية لكل المفاهيم التي استندت عليها في مسيرتها.
إنه نص يتأرجح بين السرد الاعترافي والتأريخ الذاتي، بين الشعرية الكامنة في المفردات ونبرة الخطاب السياسي الذي لا يخلو من انفعال المحتج وثورة المتألم.
البنية النصية والأسلوب
تتحرك الكاتبة مليكة طيطان، في نصها عبر تقنية التداعي الحر، حيث لا زمن خطي ولا تسلسل منطقي بالمعنى التقليدي، بل قفزات بين الماضي والحاضر، بين النضال كحالة وجدانية وبين النضال كمؤسسة ذكورية تحاول أن تروض الأصوات الخارجة عن نمطها؛ تعمد إلى تكسير الإيقاع السردي، فتنتقل من الاعتراف الشخصي إلى الخطاب العام، ومن السرد إلى التأمل، ومن التوثيق إلى البوح الذاتي، وكأنها تكتب بسياط الذكرى على جدار من خيبات الرفاق.
اللغة التي اعتمدتها طيطان في النص ليست لغة تقريرية باردة، بل هي لغة مشحونة بعاطفة متأججة، تلتحم فيها الصور الاستعارية بالموقف، فتتحول الكلمات إلى شظايا تنفجر في وجه القارئ، وتثير لديه أسئلة أكثر مما تقدم له إجابات.
في كل جملة، هناك إيقاع داخلي يعكس نفسًا متعبة، لكنه أيضًا يعكس كبرياء جريحًا لا يقبل الانكسار.
مركزية الذات بين التقديس والخذلان
يتخذ النص من الذات محورًا مركزيًا، لكنها ليست ذاتًا منغلقة على نفسها، بل ذات مشتبكة مع الآخر – رفاق النضال – الذين تحولوا في وعي الكاتبة من شركاء في الحلم إلى أدوات للخذلان.
إننا أمام كاتبة لا تستجدي الاعتراف، بل تقف أمامه كتلميذ كان يظن أن النضال ماء نقي، فاكتشف لاحقًا أنه مجرد بركة لتصفية الحسابات والتهافت على الامتيازات، وهنا، يتحول خطابها إلى جلد ذاتي، لكنه جلد يستبطن نقدًا قاسيًا للمؤسسة النضالية، بوصفها فضاءً لم ينجُ من الذهنية الذكورية والاستبداد المقنع بشعارات العدالة والمساواة.
التقنيات السردية والمفارقة الدرامية
تعتمد الكاتبة في نصها على تقنية المفارقة التي تتجلى في عدة مستويات، أبرزها مفارقة الصورة المثالية للنضال مع واقع التسلط والإقصاء الذي عاشته، ففي مواضع عدة، تستدعي صورًا من ماضيها النضالي، حيث كانت الشابة اليافعة، الجالسة أمام محراب الخطابة، تحفظ الشعارات كما تُحفظ المعلقات، لكنها تعود لتقارن هذا الالتزام الطفولي مع خيبات الحاضر، حيث تحولت النضالات إلى “تبن علف البهائم” يُستجدى كما تستجدى المزايا في المواخير والحانات.
كذلك، نجد في النص توظيفًا لصور متكررة تعكس معاناة الذات الساردة: صور المعسكرات، الجدران التي تحمل آثار الدماء، الكدمات كطقوس خطوبة للنضال، الهودج الذي يحملها إلى دار الزجر، كلها رموز تتكرر لتعزز فكرة أن النضال لم يكن لها سوى سلسلة من المحاكمات والتضحيات التي لم يُكتب لها الاعتراف.
الخطاب النسوي في النص
رغم أن النص يبدو للوهلة الأولى خطابًا ذاتيًا، إلا أنه يتجاوز السيرة الشخصية ليصبح شهادة على واقع أوسع، هو واقع المرأة داخل الحركات النضالية؛ فالكاتبة لا تكتفي بنقد المجتمع الذكوري التقليدي، بل تكشف كذلك عن تواطؤ المرأة نفسها في تكريس التبعية، عندما تتنفس من عبوديتها نسيم حريتها، كما قالت في واحدة من أقوى عبارات النص. هنا، يظهر الوعي الحاد بالتمييز المزدوج الذي تعرضت له: مرة لأنها امرأة في مجتمع ذكوري، ومرة أخرى لأنها مناضلة في بيئة لم تكن تتقبل نساء يقتحمن عوالمها دون استئذان.
استنتاج
ان هذا النص ليس مجرد اعترافات مناضلة، بل هو وثيقة تطرح إشكالية العلاقة بين النضال والممارسة، بين الشعارات والواقع، بين الفكرة والتطبيق… هو نص يشبه صرخة في وجه تاريخ لم ينصف النساء حتى داخل أكثر الفضاءات ادعاءً للعدالة… هو، قبل كل شيء، مرآة تعكس وجه النضال عندما يتحول إلى لعبة نفوذ، أكثر منه ساحة للتضحية.
إنه نص يحمل مرارة لا تخطئها العين، ولا يشوش على الأذن السميعة ضجيج “حرْكات” الآن، لتشفر مقاماتها، لكنه أيضًا نص يثبت أن الكاتبة لم تنكسر، بل اختارت أن تحول جراحها إلى حبر، لتكتب سيرة لم تكتمل بعد، وربما لن تكتمل، لأن النضال – كما يبدو في هذا النص – ليس سوى مسيرة طويلة من الخذلان، لا تنتهي إلا عندما تقرر الضحية أن تصبح هي الراوي، لا المروي عنه.