منير لكماني 16/06/25 ألمانيا
لا يخفى على من يُتابع الشأن الثقافي والفني بالمغرب، حجم التدهور الذي آلت إليه الإنتاجات الفنية، لا سيما في مجالي التلفزيون والسينما، وهي إنتاجات تتكاثر كمًّا، وتتناقص قيمًا، حتى باتت جزءًا من المشهد الإعلامي الذي يعاني من التكرار، والاجترار، والفراغ الدلالي. إن المتتبع العادي لا يحتاج إلى أدوات نقدية معقدة كي يُدرك أن ما يُقدم على الشاشات – سواء في مواسم الدراما الرمضانية أو في قاعات السينما – لا يُعبّر عن الروح المغربية، ولا عن الإنسان المغربي، ولا حتى عن مشاكل حقيقية يعيشها المواطن في قريته أو حيه الشعبي أو طبقته الوسطى التي باتت تتآكل.
الفن عندنا أصبح، في معظمه، لغة غريبة تتحدث عن طبقات نادرة، في فضاءات مستنسخة، بعلاقات اجتماعية هجينة، تُمثَّلُ فيها الأسرة المغربية ككيان مفكك، والمرأة كجسد، والرجل كمخلوق متغوّل أو ساذج، بينما تغيب الصورة الحقيقية: صورة الأب المكافح، والأم المربية، والفتاة المثقفة، والجدّ الحكيم، والجماعة المتآزرة. هذه الشخصيات التي كانت عماد الحكاية المغربية القديمة، أُقصيت لحساب “كائنات درامية” فارغة، هلامية، لا هوية لها ولا جذور.
في عمق الخلل: فنّ بلا فكرة ولا حشمة
إن الأثر الأشد فتكًا بهذه الإنتاجات لا يتمثل فقط في ضعف البناء الفني، أو ضعف التشخيص، أو ارتباك السرد، وإنما في أمرين اثنين أكثر خطورة:
أولًا، غياب الفكرة المركزية الخلّاقة. العمل الفني في أصله حكاية ذات رسالة، يستخرج منها المشاهد مغزى ما، قيمة أخلاقية، رؤية جمالية، وعيًا جديدًا أو تأملًا أعمق. غير أن كثيرًا من الأعمال أصبحت تنطلق من فراغ دلالي، وتنتهي إلى لا شيء. قصص تبدأ ولا تنتهي، شخصيات تُصنع على عجل، أحداث تُقحم فقط لملء الزمن التلفزيوني، حوارات تُبنى على سخرية فارغة، أو إيحاءات جنسية مبطنة، أو صراعات مصطنعة لا تحاكي الواقع ولا تستثير الفكر.
وثانيًا، انهيار الحياء العام في هذه الأعمال، بشكل ممنهج ومقصود. ما عادت الكاميرا تتورع عن تتبّع الأجساد، ولا المخرج يتردد في تضمين مشاهد حميمة لا حاجة لها، ولا السيناريست يتحفظ عن إدخال عبارات بذيئة على ألسنة الشخصيات، في مشاهد تُعرض في بيوت المغاربة، وبين أطفالهم وشيوخهم، دون أي اعتبار للذوق أو الحساسية الثقافية أو طبيعة المجتمع المغربي المحافظ. لقد فُقدت الحدود، ولم يعد هناك “خطّ أحمر” بين الفن والتسويق الجنسي المموّه باسم “الجرأة الفنية”.
القطيعة مع المجتمع والهوية:
كل فن لا يتغذى من تربة المجتمع يُصبح مسخًا. هذه قاعدة لا يختلف فيها ناقدان. والمشكل الأكبر في الإنتاجات المغربية اليوم هو انفصالها التام عن نبض الشعب المغربي وهمومه وتطلعاته. فهي لا تُعبّر عن الحي الشعبي إلا في صورة الكاريكاتير، ولا تُصوّر الفلاح إلا كبدائي، ولا تُبرز حياة الناس اليومية إلا في ضوء التهكم والعبث. بل الأدهى من ذلك، أنها تُكرّس صورة نمطية للمغاربة كمجتمع مهووس بالجنس، والعلاقات المشبوهة، والماديات، والتفاهة.
هذا الانفصال ليس عفويًا، بل هو ناتج عن طبقة من المنتجين والمؤلفين والمخرجين الذين لم يعودوا يعيشون في المغرب الحقيقي، بل في نسخة استهلاكية منه تُحاكي ما تنتجه المنصات الغربية من مضامين، دون تمثل للخصوصية، ولا اعتبار للأخلاق، ولا حتى كفاءة في المحاكاة. فليس المشكل في “العولمة” بحد ذاتها، بل في استنساخها على نحو مشوّه ومُبتذل، حيث يُصبح الهدف تقليد الآخر دون مبرر، ولو على حساب قيمنا ومصالحنا النفسية والاجتماعية.
. خلفيات الأزمة البنيوية:
• ضعف التكوين والتأطير الفني: إذ لا توجد منظومة تعليمية أو تكوينية فعالة لصناعة كتّاب سيناريو محترفين، ولا مخرجين يملكون رؤية جمالية، ولا ممثلين يجمعون بين المهارة والمعرفة. ما يحدث اليوم هو أن “الصنعة” تُكتسب عشوائيًا، بينما يغيب الفكر والقراءة والنقد البنّاء.
• منطق الدعم الريعي: حيث تُموَّل الأعمال من المال العمومي دون تقييم فعلي للجودة أو الفكرة أو الجدوى. يُعاد إنتاج الرداءة لأن شبكات الدعم تُعيد تدوير نفسها. فلا تنافسية، ولا عدالة، ولا تحفيز للكفاءات الصاعدة.
• غياب ميثاق ثقافي مرجعي: ليس هناك تصور واضح حول طبيعة الفن الذي نريده. هل هو فن للربح؟ أم للتأثير الثقافي؟ أم للتربية؟ أم للهوية؟ هذه الأسئلة لا تُطرح، وبالتالي فالإنتاج يتحرك بلا بوصلة.
. ما العمل؟: نحو مشروع وطني لفن متخلّق
ليس الخروج من الأزمة مستحيلًا، لكنّه يتطلب رؤية عميقة وشجاعة أخلاقية ومؤسسات ثقافية حية. ولعل من بين الخطوات المفصلية:
• صياغة ميثاق وطني للثقافة البصرية، يشمل مبادئ واضحة تُراعي الحشمة، وتحترم الأسرة المغربية، وتربط بين الفن والهوية، وبين الإبداع والرسالة.
• ربط الدعم المالي العمومي بالجدارة: فلا يُصرف المال إلا للأعمال التي تُثبت قيمتها من خلال فكرة عميقة، ورؤية إخراجية واعية، ولغة تحترم ذكاء الجمهور.
• إحداث مدارس عليا للفنون السمعية البصرية والتكوين المسرحي والكتابة الدرامية، تكون فيها الدراسة مهنية وفكرية في آن، ويشرف عليها مثقفون ومهنيون حقيقيون، لا نجوم مناسبات.
• فتح منصات حوار نقدي ومجتمعي حول ما يُنتج: عبر برامج حوارية ومجلات فكرية ونوادي ثقافية تُناقش الفن بجرأة، وتُعيد إليه قيمته كمجال جدّي.
• الاحتفاء بالذاكرة الجماعية: واستلهام القصص المغربية الحقيقية، من الريف إلى الجنوب، من الأحياء الشعبية إلى الجبال، من سِيَر الرموز إلى حكايات الناس البسطاء.
الفن مسؤولية لا فراغ
إن ما نشهده اليوم في فننا ليس فحسب اختلالًا في الصناعة، بل أزمة ضمير ثقافي. ولا يمكن لأي أمة أن ترتقي بذوقها الجمعي، أو تحمي ذاكرتها، أو تبني إنسانها، دون فن يليق بجمهورها، ويغار على هويتها.
فلنعمل جميعًا على أن يعود الفن المغربي كما كان في لحظاته الذهبية: متخلقًا، عميقًا، صادقًا… يشبهنا.