لماذا تثور الشعوب؟ كيف تتحرك وتفكّر؟ وكيف يتم خداعها؟

بشار منصور

لماذا تثور الشعوب؟
كيف تتحرك؟ وكيف تفكّر؟ وكيف يتم خداعها؟
هل هي دائمًا على حق؟ هل يمكن تنظيمها؟ هل تستطيع التغيير فعلاً؟!
جميعها أسئلة بنى الفيلسوف الكبير غوستاف لوبون عليها كتابه “سيكولوچية الجماهير”، والذي يبحث فيه من خلال علم النفس الاجتماعي طريقة تفكير المجتمعات على مر العصور، وهي لا تختلف كثيرًا بين عصرٍ وآخر ومكانٍ وآخر.

كتب لوبون هذا الكتاب عام ١٨٩٥م مستلهمًا معظم أفكاره من عصره، عصر انتصار العلم وعصر الدولة المدنية والأهم عصر الثورة الفرنسية، وهي الحدث الكفيل بإلهام كل فيلسوف وكل مفكر، ففيها واجه الشعب مفهوم الثورة الحديثة للمرة الأولى، ومفهوم قلب الحكومات وإنهاء الملكيات، والأهم إسقاط سلطة الكنيسة ورجال الدين وما رافق ذلك من تصدير الأزمة وظهور الأحزاب وتفرعاتها وعدوى الشعوب بالثورات.

كيف تفكّر الجماهير؟
يؤكد لوبون أولًا أن الخصائص المميزة للأفراد كلًّا على حدة لا علاقة لها ولا تأثير حين يتعلق الأمر بالجماعات والجماهير، هذا بغض النظر عمّا إذا كانت جماهيرٌ من الرعاع أو من العلماء .

فعند انصهار الفرد في الجماعة “في حالة الثورات مثلًا” تنصهر معه كل أفكاره الشخصية وتحليله النقدي الخاص، وتنمحي روحه الذاتية في روح الجماعة، فتصبح المجموعة كلها بعقلية رجلٍ واحد، وتختفي الروح النقدية وتزداد سذاجة الأفراد، ويصبح الجانب العاطفي هو الأكثر تأثيرًا- هذا فقط في حالة تجمع الجماهير لهدفٍ واحد-.

قال لوبون بهذا قبل عصر الصحافة ثم عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا يزال كلامه واقعيًّا إلى حدٍ بعيد؛ فاليوم نرى كيف تنتشر أي شائعة سخيفة أو صورة مفبركة أو خبر لا يُصدقه عاقل كالنار في الهشيم وخلال ثوانٍ حول العالم، خاصةً إذا كان يخصّ قضية شعبية ما أو يزيد احتقان طائفة أو حزب ما.

إذًا ما نوع العواطف التي تُحرّك الجمهور؟
يرى غوستاف لوبون في كتابه أن العواطف التي تحكم أي جمهور شعبي لها عدة خصائص رئيسية لا تتغير، أبرزها سرعة الانفعال، فالجمهور يمكن بسهولة إشعاله وإغضابه، خاصةً إذا ما توافرت الشروط المحرّضة -سنذكرها في الفقرات التالية-، وعلى النقيض فإنه من الصعب جدًّا إسكات صورتها، فالجماهير كما يصفها لوبون “نزقة” ولا تهدأ بسهولة عادةً حتى لو تحققت مطالبها -هذا فيما لو كانت مطالبها محددة-.

كما تتميز الجماهير بالسذاجة وسرعة التصديق وانتظار الاقتراحات، ففي حال عجزها عن تفسير حدث ما -وهو ما يحدث دائمًا- فإنها تنتظر أي تفسير وتصدقه سريعًا دون التحقق والتأكد، ويمكن للإعلام هنا أن يلعب لعبته فقط بالتلميح للجمهور وترك الباقي على الجمهور.

تتميز أيضًا بتضخيم ما تريد من الأحداث وتصغير ما تريد، يضرب لوبون مثالًا على ذلك: مظاهرات غاضبة عمّت إحدى المناطق الفرنسية عندما كان الشعب في حالة احتقان، وانتشر بينهم خبرٌ عن خسارة عضوية فرنسا في إحدى المؤتمرات الهامشية، وفي نفس العام خسرت إنجلترا حربًا في إحدى مستعمراتها ولم يتحرك ساكن في عموم البلاد.

كم منٍ حركة في أوطاننا اليوم تحركت لأسبابٍ يجهل معظم الأفراد فيها قضيتهم!

يؤكد لوبون أيضًا أنه لا معنى للحديث عن الأخلاق لدى الجماهير، فهو معيار يتم التلاعب به في الأحداث الكبرى، ففي بعض الحالات يُسمّى الجزارين والمجرمين أبطالًا، ويُسمّى بعض الجنود -لمجرد كونهم جنود- مجرمين.

ما العوامل المؤثرة في الجماهير؟
أولًا وأخيرًا عامل العِرق، فهذا العامل حسب لوبون يوازي كل العوامل الأخرى، فالشعوب تُغير وتجدد وترمم وتهاجر وتعود، ولكن لا تنسى أصولها وأسلافها وعاداتها ومعتقدات أجدادها، حتى بعد انتصار الثورات الكبرى قد يظن الناس أحيانًا أنهم قد غيّروا مجرى تاريخ شعبهم، لكنه باقٍ راسخ لم يتغير فيه إلا الأسماء، وهذا العامل هو ما يُبين لماذا تتأثر الجماهير بخطابٍ ما أو حدثٍ ما في إحدى البلدان ولا تتأثر جماهير أخرى به نفسه في بلدٍ آخر.

وكذلك العامل الثقافي، فكلما ارتفع المستوى التعليمي في البلاد كلما كانت الجماهير أكثر وعيًا بقضاياها وأقل تطرفًا.

الزمن عامل هام أيضًا، فهو الكفيل بإسقاط أكبر القضايا مع التقادم، وتضخيم أبسطها مع التراكم.

أما العوامل المباشرة كالكلمات والأحداث التي تطلق الشرارات والأوهام فهي فتيل الإشعال للعوامل السابقة فقط، وهكذا نرى أن الأحداث الكبرى التي نظن أنها نتاج سياسات كبرى ومحصلة اتفاقات لا يمكن للأفراد التدخل بها، هي في الحقيقة نتاج لعوامل بعيدة لا نشعر بها ما لم نقرأ التاريخ من بعيد.

تحريض الجمهور
فور تجمع الجمهور لحدث ما، تبرز أسماء جديدة على المسرح فورًا ويتحولون لـقادة ورموز، هؤلاء القادة إما أن يكونوا مدركين لطريقة تفكير الناس ويستغلونهم لمصالح شخصية أو مصالح سياسية، وإما أن يكونوا مؤمنين فعلًا بقضية الجمهور نفسه ويمتلكون شخصية قيادية -ولكن الشعوب لا تفكر بقادتها سوى كأفراد من النوع الأخير-، وبكلا الحالتين يتولى هؤلاء القادة دور التوجيه والتحريض وتقديم الاقتراحات التي تتحول أفعالًا، بل ويمثلون العقل الجمعي للجمهور فعليًّا، وعادةً ما يتبعون أسلوب الإقناع وإثارة العاطفة والتكرار والتأكيد الدائم على نفس الأفكار.

ويتحول هؤلاء بشكل سريع لقادة مثاليين صالحين مُقدّسين بنظر الجمهور، ويصعب انتقادهم.

التيّار العام
التيّار العام هو المسار الذي تتبعه الغالبية في الجماهير والشعوب، وهو ما يُحدد توجه الناس بشكل عام، فكل ما يخرج عنه شاذ وكل ما يتبعه طبيعي، وهو بالتأكيد يختلف من شعب لآخر.

إن هذا التيار بحسب لوبون لا يتغير إلا بانقلاب الحضارات بشكل كامل، إذ لا تزعزه ثورة أو انقلاب أو حرب خارجية، ويضرب على هذا مثالًا خلال الثورة الفرنسية، حيث وبعد إسقاط الحكم الكنسي عمّ الإلحاد أنحاء البلاد، لكن الناس ما لبثوا أن اعتنقوا الربوبية ثم عادوا للكاثوليكية، فالتيار العام للمجتمع الفرنسي يدفع الناس نحو التدين وهذا لا يتغير ببساطة.

الديمقراطية
يثير لوبون الجدل بانتقاده لاستخدام الديمقراطية، وهذا رأي غير مفاجئ من لوبون بالنسبة لما تقدّم من آرائه ودراساته، فهو يرى أن الجماهير “مغفّلة كما يقول” يمكن التأثير بها ببساطة، إن لم يكن بالدين فبالأحزاب، ويرى أنه حتى لو استخدمت الديمقراطية بكفاءة ودون تزوير فلن تجدي نفعًا، إذ يمكن لأصحاب النفوذ التأثير بسذاجة الجمهور ببساطة.

وهذا قبل أن يرى غوستاف عصر الإعلام، فما عساه يقول اليوم!!

إن الثورة الفرنسية نقطة مفصلية في تاريخ البشر ككل، وليس تاريخ فرنسا فقط، فقد غيرت مجرى التاريخ وانبثقت منها معظم التيارات الفكرية التي نعرفها اليوم حول العالم، وألهمت آلاف المفكرين والكتاب والفلاسفة وحتى العلماء، ولوبون واحدٌ منهم فقط، رأى من خلالها طبائع المجتمعات والشعوب وأسقطها على كل زمانٍ ومكان.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *