يونس مجاهد

منذ أن ظهرت الصحافة ووسائل الإعلام، وهي تخضع للدرس والتحليل من طرف علماء من مختلف التخصصات، في مجالات العلوم الإنسانية، ومن طرف الفلاسفة، أيضا، نظرا لأهميتها في تشكيل الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي، وكلما تطورت الوسائط الإعلامية، كلما تراكمت اجتهادات العلماء والمفكرين، لفهم وتفسير تأثيراتها على حياة الناس، في مختلف تجلياتها.
ومن بين التيارات العلمية التي استحوذت على الساحة الثقافية في هذا المجال، مدرسة فرانكفورت، ذات الأصول الماركسية، التي يقول عنها الباحث في علوم الاجتماع والسياسة، فرانسيس بال، في مؤلفه “وسائل الإعلام والمجتمع”، إنها اهتمت بالصناعة الثقافية الجماهيرية، التي تنتج ما سماه تيودور أدورنو “الهمجية المهذبة”، التي لم تكن سوى أداة قمع عصرية، تحقق ذلك التلاؤم المأساوي بين “الإنسان ذي البعد الواحد”، كما وصفه هربرت ماركيوز، أو “المجتمع المدار كليا”، عند ماكس هوركهايمر، حيث يتم إخضاع الصناعة الثقافية لمنطق السوق، لتتحول إلى سلعة تافهة.
اعتبرت مدرسة فرانكفورت، التي تأسست في عشرينيات القرن الماضي، أن هذه الصناعة الثقافية تروج لنمط جديد من الإنتاج في المجتمعات، فبدلا من أن تكون هذه الصناعة الثقافية، مجسدة في وسائل الإعلام، مجالا حرا للتعبير والإبداع، أصبح منتوجها يوجه لحاجيات السوق، مثل السلع الأخرى، تصنع محتويات متشابهة ومكررة، تجعل من الأفكار والصور والرموز سلعا قابلة للبيع، تقدم موادا ترفيهية تشغل الجمهور، وتضفي طابعا زائفا من الرضا، بطريقة تجعل الأفراد يقبلون العالم دون مساءلة، لمصلحة القوى الاقتصادية المهيمنة. كما انتقدت هذه المدرسة ما أسمته بالعقل الأداتي، الذي يتعزز كلما تطورت التكنولوجيا، التي تستخدم للسيطرة على الإنسان، بدل أن تكون أداة للتحرر، مثل الإذاعة والسينما والتلفزة.
وما يهمنا هنا، هو أن نوظف نظريات ومفاهيم هذه المدرسة، في محاولة لفهم التأثيرات التي تنتج عن انتشار التكنولوجيات الحديثة في التواصل، على وعي الناس وسلوكهم، اللذين يتشكلان اليوم، عبر ما يمكن أن نطلق عليه الصناعة الرقمية، التي تمتد في شبكات التواصل عبر الخوارزميات، تتحكم فيها المنصات العالمية العملاقة، بهدف الزيادة في الأرباح من خلال تنويع وتضخيم التفاعل. ومن بين الميكانيزيمات المستعملة في هذا الإطار، أن المستخدم يتم توجيهه نحو محتوى، خاصيته الأساسية، أنه يحدث تفاعلا، فالخوارزميات تكرس الإعادة والتشابه، وتنتج موضات متكررة، ومحتويات معلبة، وينسجم هذا تماما مع نظرية مدرسة فرانكفورت التي تعتبر أن الصناعة الثقافية والإعلامية، ليست حرة، بل تخضع للبرمجة والتخطيط المسبقين.
كما تتحدث هذه المدرسة عن الاحتياجات الزائفة، التي تخلقها هذه الصناعة، والتي يمكن كذلك، أن نجدها في الزمن الرقمي، مثل إرغام المستخدم للتكنولوجيات الحديثة في التواصل، وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي على منافسة مستمرة على “اللايكات”، وعلى عدد المتابعين، وعلى الحشود الرقمية، والسعي إلى أن يبحث عن تضخيم أرقام المعجبين، في إطار ضغط نفسي رهيب للاستهلاك والظهور، يتحول فيها الإنسان، إلى سلعة للتسويق، تهيمن عليه مقاربة الترفيه اللامتناهي، كما تسميه المدرسة المذكورة، من خلال وصلات وصور قصيرة المدى وسريعة لا تتجاوز بضع دقائق.
وقد تعرض هذا الإيقاع السريع والقصير، لنقد لاذع من طرف المفكر الأمريكي، نعوم تشومسكي، الذي اعتبر أن ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تويتر، وغيرها من الوسائط التي تفرض مثل هذا الإيقاع، من فضاءات محدودة، لا يمكنه إلا أن ينتج تعبيرات سطحية، مبسطة، لا قدرة لها على الإقناع الفكري، نظرا لافتقادها إلى العمق النظري والحجج والبراهين، التي تحتاج إلى شرح وتوضيح وإسهاب…
كما أن الصناعة الرقمية، أنتجت أيضا ما يمكن أن نسميه “مشاهير آخر ساعة”، الذين لا يتوفرون على أي إنتاج ثقافي حقيقي ولا على أية كفاءة علمية أو مهنية، سوى تلويك الكلام، وترويج خطاب يسعى إلى كسب تعاطف الجمهور، بأية وسيلة، ولو تطلب ذلك الكذب على الناس، لتجميع “اللايكات”، رأسمالهم الوحيد هو ظهورهم في فيديوهات، تغريهم ثقافة الفرجة من أجل الشهرة وإثارة الانتباه، يهتمون بعدد المتابعين، وليس بجودة المضمون ومصداقيته، وهو مظهر آخر من مظاهر التفاهة التي تنتجها الصناعة الثقافية والإعلامية، التي انتقدتها مدرسة فرانكفورت، متنبئة، قبل حوالي قرن من الزمان، بما سيحدث في المستقبل .






