محمد رضا السلاوي يكتب: ردا على البرلماني المُتَعَالِم.. « جَنَتْ عَلَى أَهْلِهَا بَرَاقِشُ! »

بعد مهزلة « التوافق » على تمرير المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 بمجلس « النواب »، والتي تبيح للدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها التنصل من تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها لفائدة المتضررين، أطلعتنا وسائل التواصل الاجتماعي على تسجيل مصور لتدخل رئيس « فريق الأغلبية » بهذا المجلس، خلال دفاعه على قانون المالية وخاصة المادة 9 المشؤومة، والتي أفرد لها حيزا واضحا من تدخله، حيث وزع الاتهامات المجانية هنا متطاولا على الأحكام القضائية ومشككا في ذمة المشاركين في إصدارها من قضاة ومحامين ومتهما إياهم بالتواطؤ على المال العام تلميحا أو تصريحا وغير ذلك من الخزعبلات التي يمكن الاطلاع عليها مباشرة عبر الانترنت دونما حاجة لنقلها هنا.

واعتبارا لهذه الجرأة الزائدة التي يجدر وصفها بأوصاف أخرى نستحي من ذكرها، والتي أطلت علينا فجأة بمناسبة نقاش عمومي يهم الرأي العام بالأساس ويمس حقوق المواطنين مباشرة، ولأن المحاماة والقضاء هما الملجأ الوحيد والأخير الذي يلجأ إليه المتضررون من تعسف الدولة وعدم احترامها للقانون لاسترجاع حقوقهم، ولأن أمثال هؤلاء بما يَدَّعون من « تمثيل الأمة » إذا ما سُمِحَ لهم بالمساس بالسلطة القضائية قدحا وذما عن جهل وأُطلق لهم العنان للتأثير عليها سلبا وتهديدها بالحد من صلاحياتها الدستورية والقانونية، وذلك من أجل خدمة مصالح خاصة بات يعرفها القاصي والداني وتفضحها القوانين التي لا يتم تشريع أغلبها إلا لضرب الحقوق والحريات والمس بمقدرات المواطن البسيط وخدمة القلة المنتفعة دون وجه حق من خيرات هذا الوطن وهُم من ضمنها.. أقول إذا ترك لهم الحبل على الغارب كما يقال، لزادوا في غَيِّهم ولَرَأينا منهم عجبا، وها قد بدأنا نرى.

لذلك وَجَدتُنِي مُرغما على الرد على هذا التطاول غير المقبول بملاحظات تَخُص مباشرة المعني بها لعله يعود الى رُشده ويستفيق من فرحته وزهوه بالمنصب الجديد، ويفهم أنه ما هكذا تكون رئاسة فريق برلماني بشكل مسؤول وما هكذا تؤدى أمانة تمثيل منتخِبيه أصلا.. وإن كنت أشك في أنه قد يفهم أصلا ما يُكتب أو يسمع ما يقال أو يحس بما يجري في هذا البلد، لأنه لو كان لأمثاله عيون يقرؤون بها أو آذان يسمعون بها أو قلوب يفقهون بها لما تفوه بما ليس له به علم ولما خاض في ما يجهل، فأخطر الجهل جهل الجهل، أي أن يجهل أنه جاهل، إذ يصير إذ ذاك جهلا مركبا أو مضاعفا، ويصير خطرا على الجميع في أي مكان وضعته، فيجني بجهله على نفسه وأهله قبل أن يجني على الآخرين، وصاحبنا قد جنى على الجميع.

أولا سيلاحظ المتتبع العارف بالأبجديات الأولى للقانون أو الذي اعتاد على استخدام المنطق السليم في التعامل مع الخطابات أن كلام صاحبنا « البرلماني » يفتقد الى أي حس قانوني، بل لم يسبق له أن اطلع على شيء من أدبيات العمل القضائي وكيفية صناعة الأحكام والمراحل التي تمر منها، وخاصة بالنسبة للقضاء الإداري، وهو بطبيعة الحال لا يمكنه أن يفهم هذا دون تكوين ودون خبرة، إذ أن تكوينه وشهادته الجامعية وتخصصه، لا يُسعفه بتاتا في فهم أواليات عمل المحامي والقاضي وآليات معالجة القضايا والتحقيق فيها والبت فيها وإصدار الأحكام، والمراحل التي تمر منها لتصبح حائزة لقوة الشيء المقضي به.

فأنا المحامي مثلا وإن كنت مختصا في القانون لا يمكنني أن أدعي معرفتي بالعمليات الجراحية أو أفهم أصولها ومراحلها والخطأ الذي وقع فيه الطبيب وما إذا وقع خطأ أصلا إذا توفي المريض أثناء العملية أو بعدها، لأنني سأكون جاهلا وَقِحا مُتعجرفا مُدَّعِيا إذا قمت بتقييم عمله أو طلبت منه أن يشرح لي تفاصيل ما قام به، وكل ما بوسعي عمله هو عرض الأمر على مختص آخر ليفيدني بخبرته ويعطيني رأيه، وهذا هو ما يقوم به القاضي عند التحقيق في القضايا لأن القاضي لا يحكم بما يعلم.. ولكن يبدو أن صاحبنا لا يعلم..

كذلك لا يمكن للطبيب الجراح مهما كان مخلصا في عمله مبدعا في تخصصه أن يفهم آليات عمل القاضي والمحامي وضوابط عملهما وقواعد التحقيق في القضايا وغيرها من الأمور، وكل ما يفهمه أو قيل له بعجالة هو أن التعويضات المنفذة وصلت في مجملها 10 مليارات وستصل الى 34 مليار درهم مستقبل وهذا يضر بميزانية الدولة متناسيا أنه كبرلماني وكرئيس فريق يفترض أنه يمثل المواطنين وليس الدولة ويجب أن يدافع عن المواطنين الذين انتخبوه حتى وإن كان حزبه « يقود » الحكومة لا أن يدافع عن الحكومة لأن لها وزراء يدافعون عنها.. كما أنه ومن الناحية المنهجية كان عليه أن يستشير ذوي الاختصاص من محازبيه ليمدوه ببعض ما يمكنه قوله في هذا الإطار، لا أن يتعالى عليهم ويخرج عن سياق ما كتب له ويبدأ في الارتجال واستعراض عضلاته والحال أنه استعرض جهله المركب بما يتحدث فيه وأخرج عقده الدفينة ووقع في المحظور، فأضر بالمادة 9 التي يدافع عنها أكثر مما أضرت هي بنفسها.

وفي جميع الأحوال فقد كان على هذا « البرلماني » « ممثل الأمة » وهو بصدد الحديث عن ما يضر بميزانية الدولة، وإن تغاضى عن ما يهدد ميزانية المواطن الذي انتخبه وأعطاه ثقته، أن يبحث في الميزانيات الكبرى التي تمتص ميزانية الدولة والتي تخصص لها المليارات من الدراهم سنويا دون أن ينبس ببنت شفة، كذلك لم يتجرأ على المساس بالحسابات الخصوصية أو « الصناديق السوداء » والتي تصل ميزانيتها عشرات مليارات الدراهم والتي يكفي جزء منها لسداد الأحكام القضائية المستحقة لأصحابها وذلك رغم تقارير المجلس الأعلى للحسابات بخصوص الاختلالات التي تعرفها والحاجة الماسة الى الأموال الطائلة التي تتحكم فيها من أجل القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة، وكان ذلك ليعفيه من الوقوع في جريرة إهانة قضاء بلاده والمس بهيبته وهو لا زال يتلمس نسائم استقلاله الأولى.

ثم ألم ينتبه صاحبنا الى الميزانية المخصصة لهم كبرلمانيين، رغم أن التمثيل النيابي والعمل السياسي في الأصل عمل تطوعي، وللوزراء والكتاب العامين ومديري الدواوين وغيرهم والتي لا تزيد إلا انتفاخا والتي ما فتئوا يصدرون قوانين لتضخيمها أكثر مع ما يرافقها من تعويض عن السكن والتنقل والسفر وحتى الأثاث والأواني الفضية والتدفئة والهاتف وغيرها.. دون حديث عن الريع الذي يصرون على إبقائه والذي يسمونه معاشا تقاعديا.. كل هذا يكلف المليارات سنويا وقد بحت الأصوات الشعبية مطالبة بإلغائه أو التقليص منه ولا حياة لمن تنادي، وإذا انضاف إلى هذا أجور الموظفين السامين فحدث ولا حرج.. أفلا يضر هذا بميزانية الدولة؟؟

ثم ألم تقترح حكومتهم بموجب مشروع قانون المالية الحالي أساسا قانونيا استمرارا لسياستكم المبنية على « عفا الله عما سلف »، بحيث فتحتم الباب مشرعا لتبييض الأموال المنهوبة أو مجهولة المصدر أو ذات المصدر غير شرعي لشرعنتها عبر أداء أصحابها نسبة بسيطة، وكذلك الأمر بالنسبة لمن هربوا « أموالهم » أو أموال هذا الشعب المنهوب الى الخارج واقتنوا عقارات هناك لتسوية وضعيتها بنفس الطريقة، ألم يفتحوا الباب واسعا أمام التهرب من الأداء لأصحاب الأموال مجهولة المصدر إن لم نقل المشبوهة المصدر، بدل التشدد في فتح تحقيقات وتشريع قوانين تحارب كبار المتهربين ضريبيا ولصوص المال العام وتقضي بمصادرة أموالهم وأملاكهم لفائدة الدولة، أو أن الأمر يطبق فقط على المواطنين البسطاء الذين أنهكت الحكومة ومعها البرلمان قدرتهم الشرائية ويقضون عليهم بالضرائب من كل حدب وصوب، مع التشدد في استخلاصها عبر الاقتطاع من المنبع والحجز على الأملاك وعلى الحسابات البنكية والاقتطاع منها مباشرة…

الم يجد صاحبنا ومن معه غير دريهمات المواطن البسيط ليملئوا بها خزينة الدولة ولم يجدوا غير خدماته الاجتماعية وأجوره ليقولوا بأنها تثقل كاهل ميزانية الدولة، ولم يجدوا غير الأحكام الصادرة لفائدته ضد الدولة بسبب سوء تسييرهم وتدبيرهم لهذه الدولة وللجماعات الترابية لهذه الدولة، وهذا موضوع آخر، ليقولوا بأنها تضر بميزانية الدولة… أما كل ما أشرنا إليه سابقا وغيره الكثير فلا يشكل أي تهديد لميزانية الدولة لأنه يصب في مصلحة « خدام الدولة »، فأين حمرة الخجل يا نائب « خدام الدولة ».

ثم يذهب هذا « البرلماني » بعيدا في جرأته ليقول بأن دفاع الإدارة والجماعات إما أنه غير كفؤ أو أنه متواطئ، لأن الإدارة والجماعات تخسر جميع دعاويها في حال الاعتداء المادي وعدم سلوك مسطرة نزع الملكية!! وهذا منتهى فهم الرجل فاعذروه، لأننا أشرنا سابقا أنه لا علاقة له بهذا المجال لا من قريب ولا من بعيد، وهو يَصدُق عليه القول في من يفتي في ما لا يعنيه، والأدهى أنه يفتي في ما لا يفهم فيه. ويبدو أيضا أنه أغبى من أن يفهم أصلا، لأن مثل هذا الكلام لا يليق بالانسان العادي « الأمي » الذي لم يسبق له أن تعرف على حروف الأبجدية، فكيف بمن يدعي أنه دكتور ونائب ورئيس فريق ويفصل في كل شيء..

إن الشخص الأمي البسيط المحترم الذي لم يُتَح له أن يتعلم بسبب سياسات أمثال هؤلاء، سيفهم بالفطرة السليمة أنه ما دامت الدولة أو الجماعة الترابية هي من قامت بالاعتداء المادي على ملكية مواطن وسلبته أرضه دون وجه حق ولم تسلك المسطرة السليمة لنزع الملكية فيجب أن تخسر الدعوى إذا لجأ المتضرر الى القضاء، ولكن يبدو أن هذا المتعالم يريد أن يخسر المواطن المتضرر دعواه أمام الدولة أو الجماعة التي يسيرها رغم أنها هي المعتدية ليكون الحكم في نظره عادلا وموضوعيا ولتظل ميزانية الدولة بسلام لينعم بها هو وأمثاله.
فكيف إذا لهذا المُتعالم المتعجرف أن يتطاول على أسياده من المحامين الشرفاء ليقول بأنهم إما غير أكفاء أو متواطئون، وهو اتهام خطير كان عليه أن يأتي بإثباته قبل أن يتفوه به خاصة وأنه في موقع مسؤول، ومنصبه لا يُسعفه ليطلق العنان لجهله وليسُب ويقذف الشرفاء بالباطل، فليأت ببرهانه إن كان صادقا. وليعلم أيضا أنه رغم أن الادارة تكون هي المعتدية فإنه ليس كل الدعاوى الموجهة ضد الدولة والجماعات تخسرها، وذلك رغم أنها معتدية ولكن لأسباب أخرى لا مجال لشرحها هنا، لأن شرح ذلك لجاهل مُتَنَطِّع لن يفيد في شيء لأنه أساسا لن يفهم منه أي شيء، فكل ما يهمه هو شرعنة رأي غير قانوني يفتقر لأدنى شروط الشرعية والمشروعية بأي قول وبأي شكل ولو مَثَّل دور المُتعالم الجاهل الذي يَسُب كل منتقديه، فما عسى العبدَ المأمورَ المتحكَّم به سوى أن يَسُب ويقذف الأحرار فقط لأنهم أحرار ويدعُون لإلغاء العبودية، ولكن العبد الذليل اعتاد فضلات وبقايا الطعام التي يُرمى له بها ويتمسك باستمرار هذا المَنِّ وهذا الريع ويهاجم كل من يعتقد أنه يهدد هذه النعمة التي يريد إدامتها باسترضاء مالكه ولا يهمه من أجل استمرار هذا إن بات أو مات كل أبناء قومه جياعا.. كل ما يهمه هو أن تستمر خزينة المالك ملأى ليستفيد من فتاتها، والويل لمن يضر بها.

ثم بعد هذا انتقل صاحبنا « البرلماني » ممثل « السلطة التشريعية » و »رئيس فريق الأغلبية » فيها في إطار التصعيد للتطاول على « السلطة القضائية » والقول بأنه لن يحترم الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة والجماعات الترابية لفائدة المتضررين قبل أن يشرح له مُصدروها كيفية إعمالهم للسلطة التقديرية في تحديد التعويضات مُهدِّدا بالحدِّ من هذه السلطة التقديرية « المطلقة » حسب قوله وسط تصفيق البعض، ملمحا بكل صَفاقة الى أن هناك تلاعبا في الأحكام ضد الدولة عبر الاستشهاد بأحكام قضت بتعويضات مختلفة تتعلق بقطعة واحدة دون تحديد مراجعها أو بم تتعلق، مُلمحا بشكل واضح الى أن « فصل السلط » لا يمنعه من التدخل في عمل السلطة القضائية في هذه الحالة، ومتفاخرا بأنه يقوم بمساءلة القضاة ليعللوا أحكامهم ويدافعوا عن موقفهم أمامه وكأن الآية انقلبت وصار هو الحكم والقاضي الذي يفصل.. صحيح أن الآية انقلبت لأن المتحدث ليس « برلمانيا » عاديا بل هو « رئيس فريق »، ولكن يبدو أن إحدى أخطاء الترضيات الداخلية للأحزاب أن تفرز مثل هؤلاء المسؤولين، لا لكفاءتهم وخبرتهم بل لأنهم كانوا موعودين بأن يكونوا وزراء وتم كنسهم في آخر لحظة، ومن أجل ترضيتهم وإرضاء حبهم في المناصب تتم التضحية بالمصلحة العامة أو مصلحة الحزب في حالتنا، ليأتي من كان يحلم بأن يصير وزيرا ليصفي حسابه مع الجميع مستخدما صفة « رئيس الفريق » التي تخوله الحديث باسم الفريق.

ولكن على ما يبدو فإن صاحبنا أتى ليصفي حسابا شخصيا قديما له مع القضاء تحول في داخله الى حقد دفين وكانت هذه أول فرصة تتاح له داخل قبة البرلمان ليفجر أحقاده في وجه « السلطة القضائية » ليتعمد إهانتها واستصغارها والتلميح الى انعدام الموضوعية في أحكامها ومطالبتها بتعليل أحكامها أمامه بكل عجرفة وتعالي، متجاهلا عن عمد كل ما ينص عليه الدستور من فصل للسلط وما ينص عليه القانون من تحديد لاختصاصات كل واحدة منها، متناسيا أنه يخص بهجومه الأحكام الوحيدة التي تصدر لفائدة المواطن ضد الدولة دون غيرها وبُوجه مَعَاول هدمه للقضاء الإداري الذي يُعتبر مفخرة القضاء المغربي عن حق وليَسْأَلْ زملاءه العارفين، وغير آبه بما قد يَجره بعجرفته وكلامه غير المسؤول وإهاناته التي وزعها ذات اليمين وذات الشمال متلحفا بحصانة رئيس فريق الأغلبية البرلمانية « ممثل الشعب » والحال أنه لم يكن يمثل إلا نفسه ساعتها ولم يكن يعبر سوى عن أحقاده الشخصية الدفينة تجاه القضاء والقضاة والثأر الذي كمن له طويلا ووجد الفرصة أخيرا ليُصفيه، ولم يكن يمثل بالتالي إلا مصالحه الشخصية الضيقة دون أن يلقي اعتبارا لما سيجنيه من خراب وويلات على فريقه البرلماني وعلى حزبه وعلى ناخبيه..
نعم لقد صدق العرب قديما حين قالوا: « جنت على أهلها براقش ».
مع اعتذاري لبراقش لحسن نيتها.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *