#هاشتاغ
في ندوة دولية استثنائية نظّمتها اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر بالرباط، وبحضور صحافيين وخبراء من أربع قارات، دوّى صوت صحافية إسبانية واحدة، لتهزّ القاعة وتزلزل القناعات القديمة.
اسمها باتريثيا ماجيدي، تحمل لقباً عربياً وتاريخاً لا يقبل الكذب. في شهادتها العلنية، التي هزّت مشاعر الحاضرين، حكت ما عاشته بين “تندوف” التي تفيض بالبؤس والمكر، و”العيون” التي تمشي على أرضها الحياة.
“ذهبت لأبحث عن الحقيقة… فصُفعت بها”
بصوت مرتجف، وبكلمات نابعة من القلب، وصفت باتريثيا رحلتها الشجاعة إلى مخيمات تندوف، تلك “المدينة الوهمية” التي بنتها جبهة البوليساريو على أعمدة من الدعاية والتضليل.
دخلتها بدون بروتوكولات، وخرجت منها محمّلة بالأسى. لم تكن الزغاريد الصحراوية التي استقبلتها سوى ستار يُخفي خلفه فقرًا منهكًا، ومراقبة بوليسية خانقة، وأسواقًا سوداء تُباع فيها المساعدات الإنسانية القادمة من بلادها: إسبانيا.
الأدوية الإسبانية، الماء المموّل من الاتحاد الأوروبي، وحتى حليب الأطفال… كلّها تُعرض للبيع في صيدليات مملوكة لمقرّبين من قيادة الجبهة. قالت بصوت متهدج: “رأيت شعبًا لاجئًا، لكنه مرّغٌ بالإذلال. يُباع له كل شيء، بينما يُخبرون العالم أنه ضحية.”
“العيون”… حيث تنتهي الأكذوبة وتبدأ الحقيقة
بعد خمس ليالٍ ثقيلة في تندوف، قررت باتريثيا أن تكمل الطريق نحو الجزء الآخر من الحقيقة. إلى العيون المغربية، دون أن تصطحب معها غير شكوكها. لكنها هناك، فوجئت.
لم تكن مخيمات، بل مدينة تنبض بالحياة. لم تكن وجوهًا غريبة، بل صحراويون أحرار، يتحدثون عن عشائرهم، عن أحلامهم، عن وطنهم.
تروي قائلة: “كنت أظن أني سأجد مدينة خائفة، منغلقة، مقهورة. لكني وجدت نساءً صحراويات يعانقن مغربيات في الشارع. وجدت ماكدونالدز! فقلت لنفسي: هذا ليس مكان نزاع. الحرب لم تكن هنا، بل هناك… في ذهني.”
“جبهة البوليساريو ليست حركة تحرر… بل شركة تموّلها إسبانيا”
لكن ما كشفته في العيون لم يكن وحده ما غيّر قناعاتها. لقاؤها بالشاعر البشير الدخيل، أحد مؤسّسي البوليساريو، كان صدمة أخرى. روى لها تفاصيل تأسيس الجبهة، وكيف تحوّلت لاحقاً إلى “شركة خاصة” لابتلاع الملايين من أموال الدعم الأوروبي، تُحمل في حقائب دون حسيب أو رقيب.
قالت: “سألته إن كانت هناك رقابة على الأموال، فضحك وقال: كنا نحملها في حقائب غير مسجّلة!”
وأردفت بأسى: “هل تعلمون أن البوليساريو تمتلك سجناً؟ اسمه ‘الرشيد’. تعذّب فيه من يعارضون القيادة، ولو بكلمة. رأيت الصحراويين الذين يعيشون فعلاً في العراء، بينما أولئك الذين يُظهِرونهم في وسائل الإعلام يسكنون في بيوت مكيّفة.”
“أشعر بالخجل من إسبانيا… وأشكر المغرب على دروس في الكرامة”
حين عادت إلى بلادها، لم تكن كما كانت. باتت عدوة لجبهة البوليساريو، ومطارَدة من أنصارها. تعرضت للهجوم في شوارع الباسك، في مشاهد ذكّرتها بأيام “إيتا”، وقالت إنها لم تشعر بالخوف مثلما شعرت بعد عرض فيلمها الوثائقي “من تندوف إلى العيون… طريق الكرامة”.
لكنها، برغم كل شيء، لم تتراجع. جاء صوتها حازماً في نهاية كلمتها بالندوة:
“اللاجئ الحقيقي هو ذاك الذي يعيش مقهوراً في تندوف، لا يملك صوته. أما الجبهة، فهي تُسكت كل صوت حرّ. وعلى العالم أن يسمع ذلك.”
وأنهت شهادتها بلقطة إنسانية التقطتها من شوارع المغرب، يوم جمعة، حين رأت أحدهم يحمل طبق كسكس ليقدّمه لجاره الفقير.
“لم أرىفي إسبانيا من يطبخ الباييّا ليعطيها للغير، لكن رأيت ذلك هنا. هذا شعب حيّ، كريم، ويستحق الاحترام، لا العداء.”