من سيربح 75 مليون؟ السوق السوداء للوطنية ومزاد المدونين في حضن أخنوش

بقلم: د. عبد الرحيم موهوب

حين كشف الصحافي الدكتور نورالدين لشهب أن المدونة مايسة سلامة الناجي تلقت مبلغ 75 مليون سنتيم من رئيس الحكومة عزيز أخنوش، لم نكن أمام تسريب عابر بل أمام زلزال كشف عمق الشقوق في أخلاق المدونين الجدد، فلم يكن الأمر يتعلق برشوة تقليدية بل بـجائزة التملق الكبرى حيث تحوّلت مايسة من واعظة وطنية إلى قديسة التحويلات البنكية تؤدي صلوات الولاء على مذبح السلطة.

لكن الطامة الكبرى لم تكن في تسريب المبلغ بل في رد فعل زملائها المدونين الوطنيين الذين خرجوا من جحورهم الافتراضية لا للاستنكار، بل ليصرخوا علاش ما عطاوش لينا حتى حنا؟، وكأننا في حلقة محلية من برنامج من سيربح المليون؟، لكن بنسخة وطنية مبتذلة حيث الجائزة ليست على قدر المعرفة بل على قدر الركوع.

إنها لحظة عبثية من سوسيولوجيا الولاء المأجور حيث تحولت الوطنية إلى مشروع تجاري له ميزانية وله زبناء ومندوبي مبيعات، وكل واحد يقدم ملف ترشيحه يتضمن منشورات فيسبوكية ولايكات مطاطية وتغريدات مشبعة بعطر الزعامة، كأنها بطاقات أداء في التزلف السياسي.

فهؤلاء لا يعتبرون أنفسهم ضحايا الفساد بل ضحايا الإقصاء من ريعه، فلم يسألوا عن أخلاق من يأخذ المال تحت الطاولة بل عن لماذا لم يدعوا هم إلى المائدة؟ وكأنهم في طابور انتظار أمام صراف آلي للوطنية ينتظرون دورهم لسحب الدفعة المستحقة.

إن أحدهم كتب كنت أظن أنني وطني.. الآن فقط فهمت أنني غبي، فلم يكن يقصد أنه خدع في مبادئه بل أنه أخطأ في العنوان البنكي، لأن المشكلة ليست في أن الموقف يباع بل في أن سعره لم يعرض عليه، لقد سقط القناع لكن دون خجل، فالخجل يتطلب ضميرا وهم باعوه بثمن أقل من ثمن شقة صغيرة في حي هامشي.

فما نعيشه هنا هو انتقال من الرأسمال الرمزي إلى الرأسمال المتسول، من أن تكتب لوجه الفكرة إلى أن تكتب في انتظار وجهة حوالة، فالرأسمال الرمزي قد يكون أخطر من المالي لكنهم فضلوا الطريق الأسهل وهو الرصيد البنكي أولا والباقي شعارات.

ففي هذا السوق المفتوح فإن الوطنية تباع بالجملة وتؤدى بالتقسيط، والمدونون لا يناقشون الأفكار بل يناقشون أسعار الوطنية، حيث يقول أحدهم بأن أخنوش ما كيخلصش اللي ساكت، وكأننا أمام عاهرة تشتم أخرى لأنها لم تحسن التفاوض، ذلك إنهم وسطاء خطاب وليسوا صانعي رأي، وكلما زاد التملق ارتفع السعر.

فلو كان لأرسطو حساب على فيسبوك لأغلقه نهائيا، فهؤلاء لا يكتبون بل يتقيؤون شعارات ممولة، فكل منشور عندهم لا يعكس موقفا بل عرضا تجاريا، وكل تدوينة هي فاتورة تنتظر التصديق عليها من طرف السلطة.

وأما مايسة فقد استحالت إلى نموذج للنجاح في عصر الوطنية بالتحويل البنكي، وبدل أن يلومها زملاؤها يغارون منها لا لأنها أكثر وطنية، بل لأنها أذكى في التفاوض، فلم يعد أحد يسأل أين هي المبادئ؟، بل فقط كيف أرسل رقم الحساب؟.

وفي عالمهم فإن الحق ليس مطلبا بل حصة من الرشوة، فالوطني عندهم ليس من يدافع عن القيم بل من يدرج نفسه في قائمة المستفيدين، فلم يعودوا يكتبون من أجل التغيير بل من أجل تعويضات الإشهار السياسي، حتى صاروا خبراء في تسويق الذل بلغة السيادة.

ثم أليس غريبا أن 75 مليون سنتيم مبلغ لا يشتري نصف شقة في الرباط كفيل بأن يسيل لعاب عشرات المدونين؟ لقد أصبحنا في زمن تقاس فيه الوطنية بتطبيق البنك، وتمنح ليس على مواقفك بل على رصيدك من المنشورات الممجدة.

إن الإنسان الحديث يقيم نفسه بما يملك لا بما هو عليه، وهؤلاء لا يملكون شيئا سوى القدرة على بيع أنفسهم بأرخص الأثمان، إنهم لا يشعرون بالخزي بل يتفاخرون بفضائحهم ويتداولونها كما يتداول الباعة المتجولون عروض التخفيض.

وفي نهاية المشهد لا نجد وطنا ولا مواقف، بل فقط حفنة من التدوينات المنبطحة ونسخا كثيرة من نفس المنشور القبيح، فقط بصيغ مختلفة تنتظر ختم القبول من السيد الراعي الرسمي.

نعم من سيربح 75 مليون لا يهم، لأن من لم يربحها سيفوز بالجائزة الثانية وهي الخزي الرقمي مدى الحياة.