أفنان أبو يحيى
السلام والبهجة يغمران الأرض في عيد الميلاد، ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين؟ في كل عام، في اليوم الحادي عشر من الساعة الحادية عشرة من الشهر الحادي عشر، تتوقف الإنسانية لوهلة لتستشعر بعظمة السلام العالمي والتعايش الديني والبهجة لإحياء تلك اللحظة المظلمة من تاريخ العالم الحديث، منذ قرن من الزمان، عندما وضعت الهدنة حداً لمجموعة من الغزاة الذين كانوا ككل مرة يعتزمون، بأي ثمن، ارتكاب واحدة من أعظم شلالات الدم حتى الآن. كان ذلك التاريخ والوقت بمثابة النهاية الأخيرة لجنون الروح البشرية الهائلة التي شعرت بأنها مضطرة إلى سفك دماء أكثر من 60 مليون إنسان في مسعى لا ينتهي لتقسيم العالم مرة أخرى، كقطعة كعك كبيرة، بين الغازي والمغزوّ.
كل عام في نفس يوم الهدنة من شهر نوفمبر، ندين بشكل خاص لجميع المناضلين الذين فقدوا أرواحهم في الكفاح من أجل الدفاع عن حق أمتهم في الاستمرار في الوجود في سلام وتعايش كجزء من الجميع، وفي تجربة حق الفرح بكونهم أحرار، لكن ملايين المدنيين الأبرياء الذين لا اسم لهم، والذين قتلوا في هذه المرحلة وفي مراحل أخرى إلى الأبد، ما زالوا غير معترف بهم إلى أبعد من كونهم أضراراً جانبية.
في 25 ديسمبر، بعد شهر بالكاد، في فلسطين، توقف العالم مرة أخرى لتكريم مسقط رأس يسوع المقدس وإحياء ذكرى حياة وتعاليم أمير السلام. ولكن خلال ذلك الوقت المقدس، يحين الوقت بالضبط لنتوقف لحظة أخرى لتكريم ليس فقط مسقط رأس يسوع المسيح ولكن أيضًا لكل أولئك الملايين من مجهولي الهوية والأبرياء الذين فقدناهم، لكل الفلسطينيين من الذين ندعي أننا نعرفهم ومن الذين نصنفهم طي النسيان، الذين ما زالوا يوميًا، بمفردهم وبقليل من المساعدة من العالم أو بدونها، يفقدون حياتهم كأضرار جانبية أيضًا دفاعًا عن حقهم وحق أمتهم في الوجود والبقاء أحرارًا.
إلى أن وضبت “الحرب العالمية لإنهاء جميع الحروب” عدّتها الملطخة بالدماء، غيّر إعلان بلفور البريطاني، وهو وثيقة عنصرية تم التوصل إليها في ختام الحرب، بمشاركة العالم الغربي، مسار الشرق الأوسط وتكوينه إلى الأبد، لكن نحو الأسوأ. من بين الانقسامات المزيفة التي أنشأها إعلان بلفور، انتهى الأمر بفلسطين إلى سباق يهودي لاستبعاد الشعب الفلسطيني نفسه.
إن ما خلص إليه إعلان بلفور في جوهره كان استمرارًا بشكل ما للغزاة المستعمرة المهاجرة المستوطنة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتهديد وحدة فلسطين كدولة وحقوق الفلسطينيين كشعب يستحق نفس المستوى من الاحترام والدفاع عن حقهم في الوجود والحرية والاستقلال وتقرير المصير. حتى يومنا هذا، فلسطين وشعبها هم وجه الطفل الحزين بعد انتهاء الحرب والضرر الجانبي لوجود هذا العالم.
وبدون إنصاف العالم ودفاعه عن حقهم في الوجود، استمرت فلسطين وطريقة حياة الشعب الفلسطيني السابقة في التحول إلى بقايا مثيرة للشفقة لما كانت عليه من قبل. إن القرى والبلدات والمدن الفلسطينية التي كانت مزدهرة في يوم من الأيام مليئة بالأطفال والأسر السعيدة والتجارة في طريقة حياة قابلة للحياة، قد تحولت الآن إلى مخيمات للاجئين بائسة دون أمل كبير في المستقبل: طوقتها نقاط التفتيش الإسرائيلية المدججة بالسلاح؛ هدّمت المنازل وسوّرتها وعزلتها عن الحقول ومراعي الماشية، مع الحدود التي تم ترسيمها من ثلاث جهات بواسطة جدار الفصل العنصري على الأرض والجدار الرابع غير المرئي، الذي تم ترسيمه بواسطة البحر الأبيض المتوسط ودوريات زوارق قوة الدفاع الإسرائيلية التي تمثل الموت والاعتقال والإذلال لجميع الذين يجرؤون على محاولة اختراق أو تجاوز حد الثلاثة أميال الذي حدده الاحتلال الاسرائيلي. الأدهى من ذلك؟ إن كل هذا بالنسبة لبقية العالم يبدو كما لو أنه غير مرئي.
منذ حين آخر، نفس الكراهية التي كان الشعب اليهودي يشعر بها تجاه النازيين بسبب العديد من المذابح والطرد والإبادة الجماعية التي أجبروا على تحملها، والتي أكسبتهم تعبير “أوم اسرائيل كاي” الشهير بالعبرية، تحيا الأمة اليهودية بالعربية، يمكن استخدامه كعبارة ملائمة لوصف نفس التحدي الشرس الذي يواصل الفلسطينيون مواجهته ضد الاسرائيليين وحلفائهم المكروهين بنفس القدر. إن حقيقة بقاء أماكن مثل غزة على قيد الحياة واستمرارية مقاومة الشعب لإيجاد السعادة على الرغم من حالته البائسة، تتيح لهم الحق نفسه في أن يقولوا على أقل تقدير “أوم فلسطين كاي”.
التوترات المتصاعدة التي لم يتم حلها ولا تزال قائمة بلا هوادة بين الاحتلال الاسرائيلي وفلسطين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، تشبه التوترات التي لم تحل بين الشعوب الأخرى التي تجتاحها نزاعات مماثلة، مثل تلك القائمة بين الهند وباكستان، ومملكة جامو وكشمير، أو أنظمة الحكم المتحاربة بين الصين السلطوية وهونغ كونغ الديمقراطية، حيث لا يزال التعذيب واسع النطاق والقتل خارج نطاق القضاء والاعتقالات التعسفية واختفاء الصحفيين والناشطين، يتسبب في ترنح العالم على حافة حروب مستقبلية أخرى تهدد بتورط كل الأمم.
ليس من المفاجئ أنه في بعض الأوساط، مع ما حدث من التهديدات المستمرة لتغير المناخ، وبروز الحكومات الاستبدادية الفاشية وتزايد الطبقية على نطاق واسع بين الأغنياء والفقراء، يعني أن “ساعة يوم القيامة” في العالم قد بلغت منتصف الليل إلا دقيقتين. لكن يبدو أن دول العالم لا تزال عاجزة عن فعل أي شيء لكبح جماح القوى السياسية والعسكرية والشركات والقوى المالية التي تواصل تحريك ساعة القيامة بشكل خطير لتكون أقرب مما هي عليه إلى تمام الساعة.
بالإشارة إلى عجز الروح الإنسانية عن تحقيق سلام عادل دائم وتعايش سلمي للجميع على الأرض، يبقى السؤال بلا إجابة: متى، إن أمكن، سيستطيع للفلسطينيين الطامحين نحو للحرية، وغيرهم من الهندوس والمسلمين أو الصينيين أو أي شعب أصلي مضطهَّد، أن يحتفلوا بيومهم الخاص وبذكرى قيم وهويات حياة شعوبهم بدون فقدان أرواحهم في درب الآلام غير المنتهي لنيل الحرية المستحقة؟
على أية حال، لا يزال، كما لو كان رد فعل إلزامي، في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر، وفي الخامس والعشرين من كل شهر ديسمبر، سعي الروح الإنسانية جاهدة لتكريم أمير السلام قائمًا بعد أن تحدث ذات مرة ببلاغة وبقوة ضد الإفساد في الأرض الذي لا داعي له، ضد الوحشية والمجازر التي لا يزال البشر بسببها على مدى الألفي سنة الماضية مضطرين لشن الحروب على بعضهم البعض مخالفين لأجل الحياة جوهر الحياة نفسها.
خلال كل عيد الميلاد، تستمر مراسم التشريف الخاصة بولادة الطفل يسوع في فلسطين. ومع ذلك، من الغريب أن مسقط رأس ذلك الإنسان غير العادي والروحي هو نفس المكان الذي شهد اغتياله من قبل الشعب اليهودي الذي يغتال اليوم بلا رحمة حياة الفلسطينيين.
لا يوجد مكان على الأرض منذ ذلك الحين لم يسلم من أدنى نزوة أو شهوة لأي قاتل جديد مجنون ونرجسي للظهور إلى المشهد، كشخص فريد من نوعه أو فصيل مميز من الكلاب يخوض غمار مجزرة ما، كقربانًا للرب أو للحاكم أو للبلد، مثل الغريق المتعلق بقشّة مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل أي نسخة جديدة ميئوس منها، لا معنى لها، غير قابلة للتحقيق من “الحماقة”.
في عشية عام 2020، بينما ينقب العالم في أدراج القرن الحادي والعشرين، لا يزال انهيار المجتمعات البشرية المدنية يؤدي إلى أعمال قتل وفوضى وإرهاب لا حصر لها يتم ارتكابها ضد العديد من السكان الأبرياء في عدد لا يحصى من الاماكن.
إن التاريخ الطويل وراء كيفية ظهور بلدان مثل “إسرائيل” والهند وباكستان ودول أخرى في منطقة الشرق الأوسط بشكل مصطنع لأول مرة في نهاية الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، والإرهاب الذي ما زالت مسؤولة عنه في توسعها المستمر، يجب أن يكون قصة فيلم حقيقي يحمل الشعار الغربي الشهير “دعنا ننسى”.
بدأت حرب النكبة في فلسطين عام 1948؛ الانتفاضات التي لا تنتهي والعمليات العسكرية التي انتشرت منذ ذلك الحين في أراض محتلة أخرى في سلسلة انتهاكات للقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة؛ تواصلت في كل مكان مثيرةً الرعب الدائم الذي يحتدم مثل ويلات سرطانية غير مميتة.
ومع ذلك، فإن الحجم الضخم للانتهاكات التي ارتكبت ضد العديد من الشعوب المختلفة على مدار القرن الماضي قد تمت بموافقة عالم غير مبال، مثل غسل الامبراطور بونتياس بيلات يديه بعد أمره بصلب يسوع في العصر الحديث، تاركين أوطان المناضلين مبللة بدماء ومصائر الكثيرين من الأحرار الآخرين.
ما لا يزال يحدث في أماكن مثل القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة ليس أقل من خرق صارخ للإنسانية. لكن الفلسطينيون يواصلون رغم ذلك الكفاح من أجل البقاء في سجون الهواء الطلق ومخيمات اللاجئين البائسة، ضحية الحصار غير القانوني المستمر والهجمات ضد ملايينهم القليلة في الداخل، لجانب اللاجئين في الخارج، المكتظين في مساحة صغيرة تمتد على قطعة من الأرض مقدارها سبعة أميال وتمثل واحدة من أكثر البقع كثافة سكانية في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، رغم أن عمليات القصف الجوي والصاروخي والمدفعي الإسرائيلية لا تزال تشن على مر السنين عمليات دقيقة الهدف في غزة، سواء في المواقع التي حرّمتها الأمم المتحدة والمستشفيات والمدارس والمساجد والمنازل والأسواق، حيث أزهقت آلاف الأرواح، منها أسر بأكملها تمت إبادتها، ظلت مقاومة الشعب قوية مع أن عدد المدنيين العزل الذين يصبحون ضحية للموت والتدمير اللانهائي الذي تلحقه عملية عسكرية إسرائيلية لا لزوم لها تلو الأخرى يزداد، أيضًا في ظل وجود قناصة جيش الدفاع الإسرائيلي الذي يدير حيوات المواطنين عن بعد باوامر التشويه المستمر والقتل والترويع وإهانة الروح البشرية.
في الماضي، كان لدى بعض القادة الإسرائيليين، مثل جلعاد شارون، نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون والمتخصص في جيش الدفاع الإسرائيلي، التهور الكافي الذي يدفعه علناً لتدمير غزة دفعة واحدة، ليس من خلال قنابل الغاز ولكن بواسطة قنبلة نووية واحدة من شأنها أن تخلق هيروشيما أو ناغازاكي أخرى وتعيد قطاع غزة إلى العصر الحجري.
في حفرة الجحيم هذه المسماة غزة، لا يزال الناس يتعرضون لأشكال أخرى من التعذيب، مثل: محاولة التعامل مع إمدادات كهرباء لمدة ساعتين إلى أربع ساعات فقط يوميًا؛ إنعدام أنظمة تكييف الهواء أو التدفئة؛ في حين أن محيط البحر الأبيض المتوسط القريب تم فرض حدود أخرى مصطنعة عليه للإعتداء على حقوق الصيادين الباحثين عن لقمة العيش أو الراغبين في استكشاف العالم وراءه؛ أضف لذلك 97٪ من مياه غزة غير الصالحة للشرب لأن الناس محرومون من القدرة على تنقية المياه؛ مع اعتبار 50٪ من مستشفيات غزة غير عاملة بسبب عدم قدرتها على الحصول على الإمدادات الطبية عبر متاهة الاحتلال الاسرائيلي من الحدود القاسية لمعسكرات الاعتقال ونقاط التفتيش العسكرية. حتى أن الفلسطينيين يجدون صعوبة حقيقية في الدخول إلى قطاع غزة أو الخروج منه دون قيود مرهقة، بينما لا يوجد شيء في غزة من تلك الأشياء التي يعتبرها البشر تقريبًا في كل مكان في العالم بديهية لعيش حياة كالحياة، مثل الطعام والدواء والوقود والسلع اليومية. ولكن يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لمحنة العديد من الشعوب الأصلية المحرومة في جميع أنحاء العالم.