نادية بنصالح تكتب: آن الأوان (1)

بقلم: نادية بنصالح إطار بوزارة الدولة المكلفة بحقوق الانسان والعلاقات مع البرلمان

لوحة تشكيلية للمجتمع

لايمكن للإنسان أن يعيش بمفرده، إذ هو بحكم الطبيعة عبارة عن عقدة ترتبط بمجموعة عقد في مختلف الاتجاهات، تشكل شبكة تسمى المجتمع، وبالتالي فإن أي خلل في العقدة أو إحدى العقد يترتب عنه تفكك الشبكة؛ الفرد، والأسرة، والعائلة، والمحيط (الجيران، والأصدقاء، والزملاء بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام).

إن هذه العلاقة الجدلية توحي بأن هناك ترابطا بين الفرد والمجتمع، وهذه العلاقة التي تشكل الخيوط الرابطة لعقد الشبكة المجتمعية تتجلى في الأخلاق، المعاملات، القيم، الحريات الفردية والجماعية.

لا شك أن صلابة هذه الخيوط هي من تحدد مدى قوة ترابط العقد فيما بينها، وبالتالي متانة الشبكة =(المجتمع) التي تتجلى في التعليم، والصحة، والعمل، والوعي، والالتزام، وحس المسؤولية.

والأكيد أن هذه الشبكة في آخر المطاف لها شكل معين، محدد بإطار أو حاشية بمثابة صمام الأمان = (الوطن). وقوة هذا الوطن من قوة وصلابة الخيوط الأساسية التي تربط العقد فيما بينها. وهذه اللوحة التشكيلية للمجتمع هي من تحدد قوة وعظمة ورقي وتقدم البلد = (رفاهية المجتمع) أو العكس.

التربية
إن متانة الشبكة وقوتها كما سبق ذكره لا مكان فيها للسلبية (الانتهازية، الوصولية، الاتكالية، الاستهلاك، الجهل … )، لأن هذه السلوكات لاتعكس إلا اللاإنتاج واللافعالية، بل وتنتج طفيليات تنخر العقد وتضعف الشبكة = (الوطن) مما يؤدي إلى صراع داخلي بين الصالح وغير الصالح ، وبالتالي استنزاف الوقت والجهد والإمكانيات والفرص… لبناء الأمة.

هذه السلبية هي في الأساس نتاج للتربية غير الصحيحة التي يتلقاها الفرد من البيت و المدرسة والمحيط والمؤمنة (بالأنا)؛ وتضخم هذا الإحساس يستبيح كل الطرق والوسائل التي تضرب عن وعي أو لاوعي القيم النبيلة : (الكفاءة، الإيمان بالاختلاف، الحس بالمسؤولية، تقدير المواهب، تكافؤ الفرص، بل في بعض الأحيان حتى الوطنية… ) المهم أنا ومن بعدي الطوفان، دون إدراك من هذا الفرد أنه جزء من الكل (عقدة في الشبكة المجتمعية) يحمل في حقيقة الأمر إنسانا جاهلا، معيقا ومدمرا لهذه الشبكة؛ وبالتالي مدمرا لوطن يجتمع فيه الجميع بمختلف نوعهم، معتقداتهم، مواقعهم ، مسؤولياتهم…؛ والنتيجة إحباط آمال أمة.

قال الشاعر أحمد شوقي :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت= فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .

والأخلاق ترتكز على مجموعة من القيم النبيلة : الإيمان بالاختلاف، وحرية الفرد والجماعة، والحس بالمسؤولية، والاحترام، والوعي، والحس التشاركي، والتكافل، والتسامح، والتعايش، والتقدير، والاعتراف.

فالأخلاق إذن هي وسيلة لشد أيادي العقد وتظافر الجهود، من أجل خلق اتحاد هادف وواع، وبناء مستقبل زاهر للجميع كل مسؤول من موقعه.

المسؤولية

لا تعني المسؤولية بأي حال تقلد الكراسي ولا أوسمة التشريف، وإنما هي تكليف يحتاج قيمة العلم والمسؤولية، من حيث هما تدبير، وتخطيط، وتوجيه، وإرشاد….وحل للمشاكل وليس خلق للفتن.
والأهم هو أن كل فرد مسؤول عن نفسه، بيته، محيطه…. ووطنه. مما يعني أن كل عقدة تمثل فردا صغيرا أو كبيرا داخل الشبكة المجتمعية؛ وقد صدق الرسول الكريم عليه السلام عند قوله (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، وهو حديث يحدد المعنى الأخلاقي للمسؤولية بمعنى حب مهمة المقام الذي يستوجب على كل فرد تحمل المسؤولية فيه أينما وجد. فحب واحترام وتقدير الآخر كلها مقومات أساسية للمعاملات الإنسانية الصحيحة، التي تكمل وتعمل على تمتين روابط عقد الشبكة المجتمعية حتى يستحيل خرقها وتدميرها.

إن الوعي بالمسؤولية يمكن بشكل سلس في قيام الفرد بالواجب كجزء من الشبكة ( الأسرة والعائلة ) وككل (المحيط والمجتمع)؛ أي إدراك الحقوق الخاصة والعامة، فمعرفة الفرد = العقدة لما له وما عليه تحدد بطريقة جدلية ديالكتيكية علاقة عقد الخط العمودي بعقد الخط الأفقي (القاعدة والقمة)، وتمكن من التعايش في فضاء يسوده التناغم والتكامل لتحقيق الهدف المنشود، الذي لا يعدوا أن يكون شبكة مجتمعية قوية تستوعب مفهوم دينامية الجماعة، مبنية على أرضية صلبة، ولديها لبنات لبناء وطن راق .

قال الشاعر المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم.

التطوع

عرف المغاربة بعملية انفردوا بها بين الأمم، تسمى التويزة؛ وهي عملية اتفاق جماعي على التعاون والتكافل للقيام بأشغالهم الكبرى، محددة بالزمان والمكان على سبيل المثال ( الحرث، الحصاد، الدرس، جني المحصول….).

هذا الاتفاق كان الغرض منه ربح الوقت والجهد وترشيد وتوفير النفقات، مبني على روح تطوعية في عمل جماعي تشاركي، تتساوى فيه الحظوظ في العمل، مدركين أنهم عقد= أفراد تترابط فيما بينها لتنمية محيطهم والرفع من مستوى عيش أسرهم وتوطيد العلاقات الإنسانية فيما بينهم، عملية لا تكلفهم سوى (عشاء كسكس) عند صاحب الدور، وهكذا دواليك طيلة السنة ليحتفلوا في شهر غشت بتنظيم مواسم قبلية تتوج باجتماع يخططون فيه لبرنامج السنة الموالية، ولذا تعتبر التويزة عملا تطوعيا في قمة العقلانية.

إن التطوع قيمة نبيلة تظهر التضحية في أسمى معانيها وتجلياتها، لا مكان فيها للتزايد ولا للرياء ولا المن؛ بل هو مبادرة لشحذ الهمم والقيام بعمل مجتمعي صالح، تضامني، تكافلي… والمشاركة جنبا إلى جنب بين جميع العقد= الأفراد في عمل جاد وهادف لا مجال فيه للاتكال أو المحسوبية أو الانتهازية… بل – للاقتباس فقط- « قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ».

لا شك أن بعث روح العمل التطوعي الصادق سلوك لا مناص منه لتحقيق المنفعة العامة، وتوطيد الإحساس في كل مجال من المجالات بقيمة العمل الجماعي المنجز (داخل الشبكة المجتمعية) على أنه شأن ذاتي (العقدة =الفرد) يجب الاهتمام به ورعايته والحفاظ عليه وصقله كلبنة من لبنات الوطن الراقي.

قال الشاعر طرفة بن العبد:

إذا القوم قالوا من فتى؟ خِلت أنني
عنيت فلم أكسُل ولم أتبلد.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *