نادية بنصالح تكتب: آن الأوان (4)

نادية بنصالح
المقام
قدرت الطبيعة أن تكون الحياة مبنية على الأضداد (نور/ظلمة، نهار/ليل، خير/شر، ميسور/معوز، مرؤوس/رئيس، موظف/مدير، عامل/رب العمل،….) . وبين البشر ابتكر مصطلح تمييزي لبق هو في حد ذاته محاولة لتكييف الحياة مع هذا التقدير، مصطلح مقبول ومسموح النعت به، وعليه شبه إجماع ألا وهو « الناس مقامات  » ؛ مصطلح غالبا ما يلجأ إليه لتبرير الوضعيات الإجتماعية أو الإقناع بها، والتي سال فيها مداد كثير من المفكرين و الاقتصاديين والفلاسفة فمنهم من تكلم عن الفيودالية (العالم المسيحي) و الإقطاعية (العالم الإسلامي) والطبقية (الفكر الشيوعي والاشتراكي) …. وكلها إيديولوجيات تطرقت للنسيج المجتمعي، تطرق لم يخل في غالبيته وبشكل عام في إقحام ما هو عقائدي لأجل التسليم بها.

والناس مقامات مصطلح لبق مشاع اليوم بمثابة (جوكر) يستعمل كلما لزمت الضرورة والحاجة للتسليم بالواقع، التطرق إليه دائما مرتبط ب « ال » المعرفة ويمكن من إدخال أدوات الشرط، النصب، الجزم، الجر، …. في اللغة العربية؛ كما يمكن أن يكون متبوعا بكل أشكال الإعراب : النعت، الوصف، البدل، المفعول لأجله،…. بمعنى آخر يصدق فيه قول سيبويه « أموت وفي نفسي شيء من حتى ».

مفهوم مشاع يفرغ كلمة المقام من معناها الحقيقي، فالمقام يحدد بالجدارة، الاستحقاق، الكفاءة، الاحترام والتقدير. ولكل عقدة =فرد مقام حسب الرسالة التي خلق لأجلها إن صدق في إنجازها وتبليغها؛ والشبكة المجتمعية هي نسيج من مقامات (العقد =الأفراد) تكمل بعضها البعض، فالطبيب مثلا لا يمكن أن يمارس رسالته دون وجود رسالة عامل النظافة، والقاضي دون كاتب الضبط، …. المهم هو التعايش والاحترام والتقدير والتفاعل المتبادل البناء كفرقة موسيقية كل عضو يعزف إيقاعا موحدا وبمقام مختلف حسب الآلة التي يعزف عليها لتتفتق سمفونية متناغمة تطرب السامعين.

وغياب التعايش و… والتفاعل البناء يخلق نشازا يرهق آذان الحاضرين لتعم الانسحابات فيفسح المجال للوصوليين والانتهازيين إحلال محل الجدارة والكفاءة وبالتالي تدمير كل ما هو جميل وجيد وراقي والتسليم بعبارة هذه هي الدنيا ؟؟؟!!!.

نشاز يعبر عنه بسلوكات مذمومة كالتباهي، التفاخر، المن، الاستعلاء، الاستقواء، … ينتج عنها التنافر، عدم الإشراك والإشتراك، التباعد، التموقف، … ؛ والحصيلة هي تمزيق اللحمة المجتمعية بفقدان الثقة وترسيخ منطق التشكيك السلبي والنقد الهدام.

قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
فليس يغني الحسيب نسبته
بلا لسان له ولا أدب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي

التقويم

الخطأ والصواب هما قيمتان مضادتان يلازمان تفاعل الإنسان منذ الأزل بالرغم من أن ذكر أحدهما يغيب الآخر، ذكر هو في حد ذاته -عند التطرق لأحدهما- حكم قيمة يمكن أن يكون نسبيا أو مطلقا إذ غالبا ما يأتي من عند الآخر حسب منظوره، فهمه، إيمانه وتقديره للأمر كعقدة /فرد أو عقد/أفراد داخل شبكة مجتمعية لها التزامات وأهداف لوجودها.
والمشاع في هذه الأحكام غالبا ما يكون الكلام عن الخطأ (الحديث هنا لا يتعلق بالجرم)، و الأمر يكون محمودا إذا كان هذا التطرق في إطار نقد ذاتي أو تحسيسي للمخطئ وقلما يحدث ذلك، إذ غالبا ما يكون عبارة عن حكم وجلد يؤدي إلى التنافر والتطاحن نتيجة كيفية طرح حكم القيمة الخاص بالخطأ الذي يفرض أن يكون التصحيح مع مراعاة نفسية المخطئ والحفاظ على كرامته لأنه في النهاية الغرض هو الإصلاح والوقوف عند أسباب علل الخطأ سواء كان عند العقدة/الفرد أو في المنظومة المجتمعية وبالتي هي أحسن، وهي كيفية توصل إلى ما يسمى بالتقويم.

والتقويم هو تسديد الاعوجاج الناجم عنه الخطأ حتى لا يستفحل ويستشري داخل الشبكة المجتمعية، وهو عملية وقاية تخدم الصالح العام وتحميه من النزعات الفردية الهدامة؛ في حين « إعطاء العبرة » هي عملية زجرية تنتج أضرارا غالبا ما تكون انتقامية (التسفيه، اللامبالاة، التشويش، التعويم، السفسطائية، … العصيان) ومدمرة للشبكة المجتمعية لأن كل ممنوع مرغوب لدى النفوس الضعيفة.
والتقويم لفظ سلس على النفس الأمارة بالسوء، يلمس القلب المتحجر، يلين العقل المتشدد ويروض غرور الأنا. أما كلمة تصحيح في معناها الزجري (إعطاء العبرة) تعني تبخيس أي مجهود كان عن قصد أو غير قصد (الذي لا يعمل لا يخطئ)، وتوحي بالجهل والضعف المعرفي للمخطئ مقابل تملك المعرفة، القوة، والحقيقة الكاملة عند طارح حكم القيمة بكل فظاظة بما تحمله الكلمة من معنى مصداقا لقوله عز وجل في الآية 150 من سورة آل عمران « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك » صدق الله العظيم.

والخطأ (وليس الجرم) درجات أكبره يسمى بالخطيئة وهي التي تمس المعتقد والإيمان، وبالرغم من ذلك فإن طارح حكم القيمة يجب ان يكون لبيبا وحكيما يقدر الأمور حسب نظرة تبصرية تراعي الظروف إن كانت ماضية أو مستقبلية والمصلحة العامة، ويقوم الخطيئة بشكل من الرزانة والحنكة ولنا إسوة حسنة في المغفور له الحسن التاني طيب الله ثراه عندما أطلق مبادرة « الوطن غفور رحيم » الموجهة لإخواننا الصحراويين المغاربة المغرر بهم، ومبادرة الإنصاف والمصالحة لجلالة الملك محمد السادس.

قال الكاتب عبدالوهاب مطاوع:
« إن الخطأ ليس أن نعيش حياة لا نرضاها لكن الخطأ هو ألا نحاول تغييرها إلى الأفضل دائما »

النشء

تعتبر المرحلة الأولى من عمر الإنسان إلى حدود سن الرابعة عشر مهمة جدا باعتبار كونه وعاء فارغ يفعم بما يسكب فيه، مرحلة تسمى بالنشء أي التكوين الإنساني بوضع لبنات الإدراك والمعرفة التي سترسم خطة طريق حياته المستقبلية إن في شبابه أو في كهولته، لبنات تحدد بالتأثير وتفاعل ثلاثة عناصر أساسية يدركها ويعرف أهميتها دون الوعي بأنها الرموز الأولى التي ستصقل شخصيته بناء على أسس كلها حب وصدق متينة كانت أو هشة، رموز تتمثل في مدى تفاعلها معه كطفل بنوعيه (بنت/ولد) وهي :

1- الأم :
الأم هي أول علاقة وجودية واتصال بالطفل عبر الغريزة والفطرة أثناء نموه في رحمها، ثانيا وهو مغمض العينين بأنفاسها، ثالثا بالملامسة وهو يرضع من ثديها؛ وهي التي تثير حواسه الخمس في سنته الأولى (الذوق، السمع، النظر، الشم واللمس) عبر حضانتها له؛ في المجمل هي أول مدرسة للأحاسيس المادية (الطيبوبة، الرحمة، الحنان…) عبر اهتمامها به، والمعنوية عبر تلقينه (التراحم، العطاء، المساواة…) لأنها لا تفرق في حبها واهتمامها بين الأبناء، وبذلك تكون أسمى رمز عاطفي في حياته وقد صدق الشاعر حافظ إبراهيم حين قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق.
لأجل ذلك فمن الضروري الاهتمام بالمرأة بحكم أنها نصف المجتمع، اهتمام يوفر لها الراحة والأمان النفسي حتى ينعكس ذلك على تربية النشء فقد قال النبي الكريم « رفقا بالقوارير  » أي لا تتعبوهن ولا تكسروا لهن خاطر، لمدى أهمية دور الأم كصلة وصل مادي في مؤسسة الأسرة.

2-الأب:
يعتبر الأب رمزا، لأنه أول صلة وصل معنوي مع العالم الخارجي للطفل، فهو رمز الانتماء، التقاليد، الأمان،…و المسؤولية. لذلك وبشكل تلقائي وعفوي أحب من يتشبه به الطفل ويقلده هو الأب، حب مبعثه الاهتمام به، ملاعبته، ملاطفته،….وتعليمه لغة التواصل العائلي والاجتماعي وتحسيسه بأهميته في منظومة الأسرة الصغيرة أولا والكبرى ثانيا.

3-المعلم:
قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
قم للمعلم وبجله تبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا.

للمعلم فضل لا يعد ولا يحصى في صناعة الأجيال بعد الوالدين فهو رسول للنشء الذي يعمل على تعليم وتلقين الطفل كيفية الجمع بين صلة الأم وصلة الأب، بين ما هو مادي وما هو معنوي بوضعه في سكة الوعي بالإدراك والمعرفة وإرشاده بكونه إنسان/عقدة وجد لأجل هدف يسعى إلى تحقيقه مع باقي العقد/الأفراد.
الأم، الأب والمعلم ثلاثة رموز/ أمثلة عليا للنشء فهي التي تفعم الإناء المعرفي للفرد/العقدة وهو طفل، وهم الذين يكسبونه المناعة العاطفية، الوجودية، المعرفية، … لتفجير الطاقات الصالحة وكل ما هو جميل وإيجابي لإنسان محتوم عليه العيش والتفاعل مستقبلا في الشبكة المجتمعية، وذلك ما يحدد انطلاقة المسار الصحيح لبناء مجتمع راقي.

قال الكاتب جوزيف جوبير:
الأولاد بحاجة إلى نماذج أكثر منهم إلى نقاد

التاريخ

التاريخ هو العلم الوحيد الذي لا يتضمن في كتابته أو تحليله كلمة « لو »، وهو الوحيد الذي لا يكتب بموضوعية، فكل خائض فيه كتابة أو حديثا إلا وتصبح النزعة الذاتية تحكمه انطلاقا من الهدف المراد من ذكر حدث ماض وتفسير أسباب حدوثه حسب إيديولوجيته وقناعته وكيفية تحليله.
والتاريخ نوعان (الرسمي) و (المسكوت عنه، المعارض والمطموس) تحددهما الغاية من توثيقه لأنه أصلا هو دراسة حدث أو أحداث لتفاعل الإنسان/ عقدة كان أو عقد في زمكان للوصول لنتيجة هذا التفاعل وفهم حياته الحاضرة والتخطيط لمستقبله.
رب العالمين سبحانه في آيات عديدة من القرآن الكريم حثنا على دراسة التاريخ للعيش في الحاضر والتخطيط للمستقبل نذكر على سبيل المثال الآية 20 من سورة العنكبوت « قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير » صدق الله العظيم، أمر غايته فهم كيفية التفاعل إن كان حاضرا أو مستقبلا بناء على أخذ الدروس من سالف التفاعل، وفهم التاريخ غايته أخذ العبر الصالحة من تجربة السابقين لتقويم أخطاء اليوم والمضي قدما لبلوغ مستقبل راقي.
إلا أن الملاحظ في تاريخ البشرية أن الكلام يقتصر على التمييز بين النوع وكأنه خاص بتفاعل الرجال وقلما ذكرت فيه النساء علما أنهن نصف البشرية، إلى أن حدثت مجزرة 8 مارس 1908 بأمريكا حيث تعرض مصنع نسيج للحريق مما أدى إلى وفاة 129 عاملة مضربة عن العمل طالبن بتحسين أجورهن، لتتأجج حركة نضالية نسائية عالمية بدءا من أمريكا وأوروبا وقررن اعتبار هذا اليوم المشؤوم رمزا وذكرى لظلم المرأة ومعاناتها على مر العصور، واستمرت هذه النضالات حتى سنة 1975 حين أقرت منظمة الأمم المتحدة اعتماد 8 مارس كرمز لنضال المرأة وحقوقها يحتفل به سنويا، وفي سنة 1996 تبنت أول موضوع وكان شعاره آنذاك « الاحتفال بالماضي والتخطيط للمستقبل »، وهكذا أصبح لكل ذكرى سنوية موضوعا يحتفل به ليكون « المرأة في القيادة » شعار اليوم العالمي للمرأة 2021.
لأجل ذلك فإن فهم التاريخ ضروري لأنه ليس كما هو الاعتقاد السائد بأنه علم ما سلف بل هو علم حي دائم التفاعل مادام أن الإنسان حي كان وكائن وسيكون يتفاعل بشكل جدلي بين الأمس والحاضر والمستقبل والعكس صحيح. هكذا هو فهم التاريخ فموت عاملات مصنع نسيج نتيجة تفاعلهن من أجل المطالبة بحقهن أدى إلى تفاعل نساء أمميات باتخاذهن رمزا لنضالهن العالمي لتنتصر المرأة وتتبوء مراكز القيادة، ومن سار على الدرب وصل.

قال الفقيه سفيان الثوري:
التاريخ هو العمق الاستراتيجي لمن يبتغي صناعة المجد في الحاضر و المستقبل .

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *