بقلم: أكرم الدرفوفي
في لحظةٍ سياسيةٍ حاسمة، وخلال جلسةٍ تشريعيةٍ خصصت للتصويت على مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، اختار 291 برلمانياً “الإضراب غير المعلن” عن التصويت، في مفارقةٍ غير مسبوقة.
فبينما كان القطاعين العمومي والخاص يشهد إضراباً عاماً دعت إليه المركزيات النقابية، كان مجلس النواب، الذي يُفترض أن يكون في صلب القرار، يعيش حالةً من الغياب الجماعي، وكأن أعضاءه قرروا البقاء على هامش اللحظة السياسية بدل أن يكونوا في صلبها.
من المفارقات الكبرى أن القانون الذي يُنظم حق الإضراب تمت المصادقة عليه وسط أكبر حالة “إضراب برلماني” غير رسمي، وكأن النواب أنفسهم يرفضون تحمل مسؤولية القرار الذي يُحدد مستقبل الاحتجاجات العمالية في البلاد.
فهل نحن أمام برلمان قرر الدخول في “إضرابٍ احتجاجي” ضد نفسه؟ أم أن غياب هذا العدد الكبير من النواب يعكس ضعف الانضباط الحزبي وعدم الجدية في التعاطي مع القضايا المصيرية؟
إن غياب البرلمانيين عن جلسات التصويت ليس ظاهرةً جديدة، لكنه حين يتزامن مع إضرابٍ عام، فإنه يكتسب دلالاتٍ رمزيةً عميقة. فالمواطنون الذين نفذوا الشكل الاحتجاجي، كانوا ينتظرون من نوابهم موقفاً واضحاً، سواءً بالتصويت مع القانون أو ضده. لكن، بدلاً من ذلك، وجدوا أنفسهم أمام برلمانٍ يُمارس “الحياد السلبي”، وكأنه غير معنيٍ أصلاً بالقضية.
فهل يعقل أن يتم الحسم في قانونٍ يُحدد مصير الإضرابات العمالية بحضور 104 نواب فقط من أصل 395؟ كيف يمكن الحديث عن تمثيليةٍ ديمقراطية حين يتخلف أكثر من ثلثي البرلمانيين عن أداء واجبهم في لحظةٍ حاسمة؟
إذا كان الإضراب هو وسيلةٌ للتعبير عن المطالب، فماذا يعني “الإضراب البرلماني” في يوم التصويت؟ هل هو موقفٌ سياسيٌ مقصود؟ أم مجرد حالةٍ من الفوضى التنظيمية والتراخي في تحمل المسؤولية؟ الأكيد أن الغياب في هذه اللحظة لم يكن محايداً، بل كان موقفاً بحد ذاته، موقفٌ يعكس إما عدم الاكتراث، أو الرغبة في تفادي الإحراج أمام قواعد حزبية ونقابية منقسمة بشأن هذا القانون.
والمثير في الأمر أن هذا السلوك بات نمطاً متكرراً في البرلمان، حيث يُفضل العديد من النواب الغياب عن الجلسات المفصلية بدل التصويت بشكلٍ واضحٍ يُحسب لهم أو عليهم. إنه نموذجٌ لبرلمانٍ يُمارس السياسة بـ”الحد الأدنى من المخاطرة”، حيث يُفضل البرلماني أن يكون غائباً على أن يتحمل تبعات موقفٍ صريح. لكن، إذا كانت السياسة تقوم على الحسم واتخاذ القرار، فما جدوى برلمانٍ لا يحضر أعضاؤه إلا في المناسبات التي لا تثير الجدل؟ وما قيمة مؤسسةٍ تشريعيةٍ تُدار بعقلية “التخلف الاستراتيجي” عن المسؤولية؟
ما حدث في جلسة التصويت على مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب لم يكن مجرد غيابٍ عابر، بل كان انعكاساً لأزمةٍ أعمق، أزمة غياب الالتزام، وضبابية المواقف، وتراجع الدور التمثيلي للبرلمان.
وبينما كانت العمال يُمارسون حقهم في الإضراب دفاعاً عن مكتسباتهم، كان البرلمان يُمارس “إضراباً من نوعٍ آخر”، لكنه هذه المرة لم يكن احتجاجياً، بل كان هروباً من المواجهة، وإعلاناً غير مباشر عن أزمةٍ سياسيةٍ باتت تتجاوز النصوص والقوانين، لتصل إلى جوهر الممارسة الديمقراطية نفسها.