يونس مجاهد يكتب: القبلية الثقافية والفيض المعلوماتي

بقلم: يونس مجاهد
هناك وهم سائد، مفاده أن زيادة كمية المعلومات المتداولة، وسرعة نقلها عبر أدوات تكنولوجيات التواصل الحديثة، ينتج عنه حتما تواصل أفضل، لكن الواقع يكشف عكس ذلك، فامتلاك قنوات اتصال متعددة وكميات هائلة من البيانات لا يضمن تحقيق التفاهم، لأن التواصل الحقيقي لا يعتمد على نقل البيانات فحسب، بل على وجود أرضية مشتركة من القيم تتيح الحوار النقدي والمشاركة الواعية في المحتوى، وهنا تبرز المفارقة، ففي عصر الفيض المعلوماتي، يمكن أن يزيد التباعد الفكري وتضيع الحقيقة وسط الضجيج، هذا ما يقوله الباحث الفرنسي، في علوم الاتصال، دومينك فولتون، في كتابه “العولمة الأخرى”.

إذ أن التدفق الهائل للمعلومات، التي يتيحها التواصل الرقمي، لا تعني أن هذه العملية، يمكنها أن تشكل، حتما، مصدرا لمعرفة أكثر قربا من الواقع، بل إن هذا التدفق، قد يكون جعجعة بلا طحين، كما يقول المثل العربي، أي تخمة في تلقي الرسائل، دون أن تكون هناك قدرة على التعامل معها بمنهجية نقدية، خاصة إذا كانت تنتشر بواسطة، شبكات التواصل الاجتماعي، التي تتميز بخاصيتين، الأولى، هي أن الأغلبية الساحقة من الفاعلين فيها، ليسو بالضرورة كتابا أو مفكرين، او أكاديميين، أو صحافيين محترفين.

الثانية، هي أن وتيرة النشر والبث، في هذه الوسائط، سريعة جدا، مما يعقد القدرة على التفكير وافتحاص المحتوى وإخضاعه للبحث والنقد والتمييز المنطقي.

بالإضافة إلى كل هذا، فإن أنظمة الخوارزميات التي تتحكم في التواصل الرقمي، تخلق عالما خاصا بالمتلقي، من خلال الفقاعات الإلكترونية، التي تودي عمليا إلى العزلة الاجتماعية والفكرية، التي قد تحدث عندما تقدم الخوارزميات محتوى مخصصا للمستخدم، لا يظهر سوى المعلومات التي تتماشى مع معتقداته الموجودة مسبقا.

كما أن هذه العزلة المضللة، قد تتفاقم، إذا تم تضخيمها من طرف الدول أو اللوبيات الاقتصادية والسياسية، والأجهزة الأمنية والمخابراتية، وهو ما يحصل باستمرار، في الحملات التي تنظم وتكبر، الأمر الذي لا يمكن أن يتم، فقط، من طرف اشخاص، بل من طرف قوة منظمة، تملك المال والنفوذ.

لقد أنتج تطور التواصل الرقمي، ما أسماه الباحث ذي الأصل الإسباني، مانويل كاستيلس، مجتمع الشبكات، الذي أصبح منافسا قويا، للمؤسسات الأخرى، مثل الدولة، والتنظيمات السياسية والثقافية والاجتماعية، غير أن هذا المجتمع الجديد، الذي يعتمد على وسائل التواصل الحديثة، لم يخلق مزيدا من الحوار والتفاهم والقيم المشتركة، بل على العكس من ذلك، لقد أدى إلى ما أطلق عليه الباحث، القبلية الثقافية، التي هي شكل جديد من الانتماء.

تتشكل هذه القبلية من جماعات رمزية صغيرة قائمة على القيم، واللغة، والذوق، والمعتقد، والموقف السياسي أو الثقافي، وتتكون داخل الفضاء الشبكي وتعمل بمنطق “نحن” مقابل “هم”، وهذه الجماعات، تكون متجانسة داخليا، ومغلقة نسبيا على الأفكار المخالفة، وشديدة الحساسية تجاه انتمائها، فحين تفشل المؤسسات الكبرى، مثل الدولة، والأحزاب، والإعلام التقليدي، يقول كاستيلس، في منح الأفراد معنى وأمانا، يلجأ الناس إلى هويات جزئية تمنحهم الانتماء والاعتراف.

ترفض هذه القبلية الثقافية السرديات الكبرى، مثل الدولة والأمة والعقلانية، وتعتمد على ترديد الشعارات، وتضخيم الاختلاف، وتبسيط الواقع في ثنائيات مثل الخير والشر، لذلك تكون لها قدرة عالية على الاستقطاب، فكل قبيلة تملك روايتها التي تعتبرها حقيقة مطلقة، كما أن الصراعات تدار بعدد الزوار، وليس بالقدرة على الحجة والإقناع، مما يجعل من النقاش المستند إلى العقل والبراهين، مستحيلا، وهذا ما يحول القبلية الثقافية إلى وجه من أوجه أزمة الديمقراطية.

لذلك من الطبيعي أن تساهم في تشجيع الجماعات الانعزالية، التي تجد فضاءا ملائما لها في هذه القبلية الثقافية، وهذا ما يتجلى في اتساع نفوذ التيارات والدعوات الشعبوية والعنصرية والفاشية، التي يتم النفخ فيها من طرف لوبيات النفوذ، حسب الحاجة، ليتم استغلالها، أحيانا ضد استقرار الدول، ولنسف الحوار البناء داخل المجتمع، أو في تحقيق مكاسب انتخابية أو امتيازات مالية واقتصادية، أو في إطار صراعات التموقع داخل محيط السلطة.