29 سنة على غزو صدام للكويت…الأخطاء القاتلة

لم تكن سخونة المشهد السياسي والعسكري في منطقة الخليج العربي، أقل من حرارة شمس أغسطس 1990 القائظة، فنذر حرب في الأفق، تتقاطع طرقها الوعرة مُشكّلةً مشهداً « غير مسبوق » في مسار العلاقات (العربيَّة- العربيَّة)، بعدما عجزت الدبلوماسية عن احتواء بوادرها.

عشرات الآلاف من الجنود العراقيين يقتحمون الحدود الجنوبية مع الكويت في اليوم الثاني من ذلك الشهر، ويصلون في ساعات إلى قلب عاصمتها، تتوقف عقارب الزمن، وتتبدى معالم محطة فارقة تُحفر في الوجدان والذاكرة العربية، وتتبادر الأسئلة: كيف وصلنا إلى هذا الكابوس، وإلى أين المصير؟ وبأي وسائل يمكن تضميد الجرح العربي الغائر وإعادة الثقة بالمستقبل، بعد خسائر قدّرت في وقت لاحق بنحو 620 مليار دولار بسعر العملة الخضراء في التسعينيات.

لم يكن قرار الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في ذلك اليوم، والقاضي بتحريك فيالق قواته العسكريَّة باتجاه جارته الجنوبية، مقصوراً في تبعاته على حدود جغرافية بقدر ما كان نذيراً بمواجهات مفتوحة، امتدت تبعاتها مع السنوات بعمق الخريطة العربية، وفق روايات أغلب من عاصروا الحدث، معتبرين أن « القيادة العراقيَّة في ذلك الوقت لم تقرأ جيداً خريطة السياسة الدوليَّة أو تفهم طبيعة التحالفات والتباينات في الخريطة العالمية، لا سيما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الموشك على الاندثار ».

ومن مذكرات من شاركوا في الحدث، مروراً بكتب من عاصروه، وروايات شهود العيان، وانتهاءً بالمؤرخين والباحثين والساسة في سنوات وعقود لاحقة، تجادلت وتباينت الأقلام، إلا أن السؤال الذي بقي دون إجابة، كيف اتّخذ صدام قراره؟

وفق ما نقله الكاتب الصحافي الشهير، غسان شربل، في كتابه « العراق من حرب إلى حرب… صدام مرَّ من هنا »، عن رئيس أركان الجيش العراقي الفريق أول ركن نزار الخزرجي حول قرار غزو الكويت، قال الأخير « كنت نائماً في منزلي ليلة الأحداث. اتّصل بي صباحاً سكرتير القيادة العامة الفريق علاء الدين الجنابي، وطلب أن أذهب إلى مقرها. حين دخلت مكتبه قال: أكملنا احتلال الكويت. سألت: كيف؟ فأجاب: الحرس الجمهوري والقوة الجويَّة وطيران الجيش أنهوا احتلال الكويت. بعد ربع الساعة وصل وزير الدفاع عبد الجبار شنشل، وأُبلغ بالطريقة نفسها. تصوّر أن الجيش يدفع في مغامرة من هذا النوع من دون علم وزير الدفاع ورئيس الأركان ».

لكن ماذا عن قراءة القيادة العراقية للسياق الدولي وتطوراته؟ حسب رصد وتقليب لـ »إندبندنت عربية » في الوثائق والكتب والأرشيفات، مثَّل اللقاء الذي جمع بين الرئيس صدام وسفيرة الولايات المتحدة في بلاده، أبريل غلاسبي، محطة فاصلة في قرار غزو الكويت، مع الاعتقاد بأن حلفاءه السوفيت لن ينقلبوا عليه حتى في أسوأ حالات الضغط الأميركي.

في ذلك اللقاء الذي تم في يوليو (تموز) 1990، أبلغت غلاسبي، صدام، وفق الأرشيف الرسمي العراقي، أن « بلادها ليس لديها رأي في النزاعات (العربية- العربية)، وأنها تفضّل الحل بالطرق السلمية »، وهو ما أوَّله الرئيس العراقي حينها، بـ »حياديَّة ورماديَّة الموقف الأميركي تجاه خلاف بلاده مع الكويت ».

لكن غلاسبي عادت، وقالت في شهادة لاحقة « رغم ما أبديته من تحذير للرئيس العراقي خلال لقائي به بشأن عزمه ضرب الكويت، فإنني أعتقد أنني لم أنجح في إقناعه بما سنقوم به في حال قام بما كان يريد، لكن وبصدق، لا أعتقد أن أي شخص في العالم كان بإمكانه أن يقنعه بفعل العكس ».

ووفق رواية وزير الخارجية العراقي آنذاك طارق عزيز، التي نقلها عنه الصحافي والكاتب الأميركي، ميلتون فيورست في كتابه « القلاع الترابية Sandcastles »، الصادر عام 1994، قال عزيز « بما أنني كنت وزير الخارجية، فإني أفهم عمل السفير، وأعتقد أن تصرّف غلاسبي كان صحيحاً، إذ اُستدعيت فجأة، وكان الرئيس صدام يريد إبلاغها أن الوضع آخذ في التدهور، وأن حكومتنا لن تتخلى عن خياراتها تجاه الكويت، كما أراد أن يضيف أن العراق لم يكن معادياً للولايات المتحدة ».

وأضاف « كنا نعلم أن السفيرة غلاسبي تتصرف بموجب التعليمات المتوفرة، وتحدثت بلغة دبلوماسية عموميَّة أو غامضة ».

ومع اعتقاده بوفاء حليفه السوفيتي، كرر صدام خطأ آخر في حسابات الغزو، بعد أن أيَّد الاتحاد السوفيتي في « تطابق غير مسبوق » مع الموقف الأميركي الحشد الدولي لإجبار العراق على الانسحاب « غير المشروط » من الكويت.

ووفق رواية فيكتور بوسافليوك، نائب وزير الخارجية الروسي الأسبق، وسفير الاتحاد السوفييتي في بغداد وقت الحرب، في مذكراته، فإن « النظام العراقي أخطأ في قراءة التطورات على الساحة الدوليَّة، وكان أول هذه الأخطاء ظنّه أن الاتحاد السوفيتي سيقدّم له الدعم، وأن العالم سيلوذ بالصمت إزاء جريمته ».

وحسب بوسافليوك، فإن غزو الكويت « أحدث انقساماً في العالم العربي، ستستمر تبعاته فترة طويلة »، مشيراً إلى أنه « عقد آمالاً كبيرة على حلّ عربي للأزمة »، مستغرباً « فشل المحاولات التي بُذِلت من أجل ذلك ».


وحسب مقابلة أجراها وزير الخارجية الأميركي، آنذاك، جيمس بيكر، مع موقع « فرونتلاين »، بعد سنوات من الغزو، ذكر أن « إدارة الرئيس جورج بوش الأب ما كانت لتنال تصويت الكونغرس لصالح الحرب لولا اجتماعه مع طارق عزيز في جنيف يوم 9 يناير (كانون الثاني) 1991 في محاولة أخيرة لإقناع العراق بالانسحاب »، وهو اللقاء الذي استمر حسب

مذكرات بيكر، نحو ست ساعات ونصف الساعة، وقال عنه « حين انتهينا من الاجتماع أدركت أن الحرب مقبلة لا محالة »، مشيراً إلى أن « مجلس الشيوخ صوّت بأغلبية 52 مقابل 48 مع الحرب، وأن أشد المعارضين للحرب قالوا إن معارضة استخدام القوة تآكلت بعد اجتماع جنيف ».

إذن تطوّرت الأوضاع، وتمكّن المجتمع الدولي بقيادة واشنطن من بناء تحالف عسكري تجاوز حلفاءها الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكانت حصيلة هذا التحالف، وفق تقديرات عسكريَّة حينها، نحو 38 دولة، و750 ألف جندي (75% منهم أميركيون)، و3600 دبابة، و1800 طائرة، و150 قطعة بحرية. اُستخدمت جميعها لإرغام العراق على الانسحاب من الكويت، ورغم تجاوز الحدث فإن تداعياته بقيت قائمة وغائرة في الجسد العربي.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *