في سنوات تولي هنري كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون، ساد تعبير يقول إن الدور الذي لعبه كيسنجر جعل من مجلس الأمن القومي مؤسسة حديثة ومتطورة للسياسة الخارجية، بحيث كان المجلس يوصف باللجنة التي تدير العالم.
كان المجلس في بداية إنشائه عام 1947 في عهد الرئيس هاري ترومان، يتحسس طريقه إلى أن يتحول إلى قوة محركة للسياسة الخارجية. وحتى بعد أن ترك كيسنجر مناصبه الرسمية في السبعينات، فإنه ظل مرجعاً لمؤسسات السياسة الخارجية، سواء منها الجمهورية، أو الديمقراطية.
والآن في خضم التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين من ناحية، وبينها وبين روسيا من ناحية أخرى، وعدم ظهور مؤشرات على ما ستكون عليه ملامح النظام الدولي المستقبلي، فقد تزايدت الدعوات من جانب الخبراء والمختصين، لتحديد ملامح ومقومات النظام القادم.
هنا كان اللجوء إلى هنري كيسنجر، ليطرح رؤيته، وذلك في حوار خاص أجرته معه صحيفة «وول ستريت جورنال». وفي هذا الحوار قال كيسنجر: «الآن توجد حقيقة أساسية وملحة، وهي أن قادة العالم (حتى ولو كانوا مشغولين بالتصدي لتطورات وباء كورونا) منشغلون أيضاً على الأقل بالمرحلة الانتقالية من الوضع الحالي، إلى وضع يكون فيه العالم قد عبر مرحلة كورونا، ووضع شكلاً للعلاقات الدولية يجهز العلاقات بطريقة تكون قد استخلصت النتائج من القصور الذي حدث نتيجة محاولة كل دولة التصدي لهذا الخطر منفردة».
ثم يقول كيسنجر إنه إذا فشل قادة العالم في الوصول إلى هذا التصور للوضع المستقبلي، فسيكون ذلك بمثابة كارثة للعالم.
هذه الرؤية من جانب كيسنجر تمثل جوهر تفكيره في شكل النظام الدولي الجديد، والذي يصعب أن تغيب عن الذين يضعون أسسه، مثل هذه التجربة المريرة لوباء كورونا.
فهو يرى أن النظام المقبل إنما يكتسب قوة دفعه من ثقة الرأي العام في الداخل أولاً بجدية قادته في التعامل مع المتغيرات الدولية.
هذا الاحتمال تواجهه مشكلة فجوات الثقة بين قادة الدول. ثم يتساءل كيسنجر: «هل يمكن أن تنزاح هذه الفجوات من ضعف الثقة، بحيث يكون التفكير في موقف مشترك لعلاج الوباء، مدخلاً إلى البحث عن مواقف مشابهة في التعامل مع تحديات أخرى، وهو ما يمكن أن يكون بداية لعصر جديد من السلام».
في نفس الوقت تسود الدول في عصرنا الحديث، خرافة بُنيت على اعتقاد أن الحكم في الدول هو أشبه بمدينة محاطة بالأسوار، التي تجعلها قوية بما فيه الكفاية لحماية شعبها من أي خطر خارجي، بينما أظهر وباء كورونا خرافة فكرة أمان المدينة المحاطة بالأسوار. وأن الأمان والرخاء يعتمدان على التشارك في مواجهة العدو الواحد، الذي لا يوجد خارج الحدود فحسب؛ بل إنه قابع في الداخل بكثافة.
إن قوة الدفع لقيام نظام دولي جديد، تتكامل فيه موارد الدولة وإمكاناتها اقتصادياً واجتماعياً، لا توفرها سياسات قوى كبرى، تنظر إلى بعضها بعضاً على أنها العدو، أو الخصم، أو المنافس الاستراتيجي، متجاهلة أنها جميعاً بلا استثناء تقف على خط مواجهة واحد مع عدو، يتربص بالجميع (وهو الآن وباء كورونا)، بينما كل دولة لاتزال تبحث على انفراد، عن وسائل الحماية من هذا العدو.
صحيح أن الفكر الاستراتيجي الأمريكي في القرن الواحد والعشرين، ينبني على اقتناع بأن الولايات المتحدة تستحوذ على قوى عسكرية واقتصادية وسياسية وعلمية تضعها في مرتبة التفوق على خصومها، إلا أن ذلك لم يمنع من حدوث قصور في أداء هذه القوة، مثلما حدث من نسف البرجين في الحادي عشر من
سبتمبر، وبعد ذلك من وضع جورج بوش (الابن)، مبدأ استراتيجياً بناء على مقولته: «نحن في زمن حرب على الإرهاب»، لكنه جمع شتاتاً من الخصوم والأصدقاء معاً في سلة سماها «العدو المحتمل». ولم يعمل على جذب كل من يستهدفهم الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، ويأخذهم معه في تكتل مشترك؛ بل تركهم نهباً للإرهاب الذي يفترض أنه وضعه في خانة العدو.
هذا السلوك دفع بعض المحللين الأمريكيين إلى أن يشبّهوه بالتصرف الخاطئ إزاء العدو المستجد ممثلاً في وباء كورونا، وحيث تنشغل دول بعدم الاقتناع بالتوافق لمواجهة عدو يدرك الجميع أنه يستهدفهم جميعاً، كل دولة في عقر دارها، قبل أن يكون الاستهداف من الخارج.